المراهنة على الحصان الخاسر

TT

عندما كنت أعمل في الإذاعة البريطانية، وجدت نفسي محاطا بعدد من الزملاء الفلسطينيين، وكان أكثرهم، وعلى رأسهم المرحوم أكرم صالح، يقضون غربتهم في القمار الذي دمر في النهاية حياة هذا المذيع البارع. قال لي يوما «يا خالد أنت شايف حمار يقامر على حصان؟ هذا أنا». فكلما غامر بالمقامرة في سباقات الخيل، كان حصانه الحصان الخاسر.

ولكن يظهر أن سلوكه كان وراثيا وتراثيا. فما من شيء أضاع فلسطين أكثر من مقامرة الفلسطينيين على الحصان الخاسر. أول حلقة منها كان اختيارهم لقيادة المفتي أمين الحسيني، رجل ليس له أي خبرة أو معرفة خارج ما يتعلق بالشرع والشريعة، الوضوء الصحيح والوضوء الباطل وما هو نحو ذلك من الأساسيات. أطلقوه ليسابق ذلك الحصان المكر المفر الماكر البروفسور وايزمان، عالم الكيمياء والدبلوماسي الأول في عصره. ولكن هذا الحصان الخاسر الذي اختاروه جرهم للمقامرة على حصان خاسر آخر، ألمانيا النازية. لجأ إليها وراح يحث إخوانه على معاضدة هتلر دون أن يعلم بأن النازيين فاوضوا الصهاينة في أكثر من مفرق واحد على حساب القضية الفلسطينية.

انتهى هذا السباق بهزيمة هتلر وفوز حصان الصهيونية بتقسيم فلسطين وإقامة إسرائيل. بدلا من التعامل في إطار الواقع الجديد واتقاء لعنة القمار، جرهم هذا الوله للدخول في مقامرة جديدة، وهي التعويل على حصان الجيوش العربية. وبخسران هذا الحصان أيضا، فقدوا النقب والقدس وأجزاء مهمة من فلسطين.

أعلن عن مقامرة عالمية جديدة: الحرب الباردة بين المعسكر الغربي والمعسكر الاشتراكي. رفض الإخوان كل طروحات الغرب، ومنها اقتراحات آيزنهاور، وفضلوا المقامرة على الحصان السوفياتي. وكانت هزيمة أخرى لحصانهم الخاسر. ثم تحول السباق إلى الساحة المحلية. ما إن غزا صدام حسين الكويت حتى بادروا للمراهنة عليه. وكانت كارثة بالنسبة للفلسطينيين في دولة الكويت.

واستمر مسلسل الأحصنة الخاسرة. كانت إيران الثورة قد تحمست للجانب الفلسطيني وقلبت طهران إلى مرتع للقضية الفلسطينية. ولكن أعلن عن سباق جديد للخيل بهجوم العراق على إيران. وضع ذلك القيادات الفلسطينية أمام إمكانيات السباق. تدارسوا الأمر ولم يأخذهم طويلا. بادروا فورا إلى شراء تذاكر الحصان الخاسر فأيدوا صدام حسين. وتمسكوا بتذاكرهم الخاسرة، بل والساقطة، حتى بعد سقوطه وقيام نظام جديد في العراق. ولم يعد للفلسطينيين مكان في هذه الساحة. جمعوا عفشهم وبدأوا بالرحيل، يفتشون عن حصان آخر يقامرون عليه.

القمار مرض لا يختلف كثيرا عن أي مرض عضوي. هذا ما رأيته من مصاحبة صديق الأمس الراحل، أكرم صالح. يلوح لنا أن حماس في غزة بدأت بالمقامرة على حصان أحمدي نجاد. رأوه يضرب الأرض بحوافره ضربا ويذرو الغبار في الأعين سحبا ويهوي بذيله عاليا ويصهل صهيله داويا فتوجسوا خيرا من ورائه ومن أمامه. لم يبدأ السباق بعد. فإسرائيل ما زالت تسرج حصانها بهدوء وتنتظر الجوكي يصل من أميركا. فهل ستضم حماس حصانا خاسرا آخر لسجل المقامرات الفلسطينية؟