توارد خواطر إزاء مصير حكم الأسد

TT

«لا نستطيع ضمان مستقبل أصدقائنا على الدوام.. لكننا أقدر على ضمان مستقبلنا عندما نتذكر من هم أصدقاؤنا»

(هنري كيسنجر)

ساعات معدودات فصلت بين ثلاثة تصريحات عميقة الدلالة إزاء الوضع في سوريا، مصادرها مرجع أمني إسرائيلي رفيع، ونائب الأمين العام لحزب الله اللبناني، والتابع المسيحي الأول للحزب.

الميجور جنرال عاموس جلعاد، مدير الشؤون السياسية والأمنية في وزارة الدفاع الإسرائيلية، قال خلال الأسبوع الماضي للإذاعة الإسرائيلية إن «سقوط نظام الرئيس السوري بشار الأسد قد يؤدي إلى كارثة تقضي على إسرائيل، نتيجة لظهور إمبراطورية إسلامية في منطقة الشرق الأوسط، بقيادة الإخوان المسلمين في مصر والأردن وسوريا». هذا الكلام، مع تذكر «التعايش السلمي» الطويل عبر خط الفصل في هضبة الجولان، و«الخدمات» السياسية والعسكرية الثمينة والعديدة التي قدمتها القيادة السورية لإدامة هذا «التعايش» عبر السنين، يستحق تأملا عميقا. ومع أن تصريحات عديدة تصدر عن القادة الإسرائيليين، منهم وزير الدفاع إيهود باراك، تناقض أولويات كلام جلعاد، ولا تبدو متحمسة للإبقاء على نظام الأسد، فالواضح أن ثمة تيارا إسرائيليا فاعلا من «الصقور» حريص على بقاء هذا النظام. أما ما يظهر من تباين في أولويات الطرح الإسرائيلي فمرتبط بالمعيار الأساسي للسياسة والأمن في الذهن الإسرائيلي، والأميركي أيضا، ألا وهو «الثمن».

فما هو «الثمن» المقبول، مرحليا، لواقع سياسي - أمني ما؟.. ما هو «ثمن» هيمنة «الشيعية السياسية» التي تقودها إيران في منطقة الشرق الأدنى؟.. ومتى يتقرر أن هذا «الثمن» بات باهظا أو ما زال قابلا للمساومة عند توافر بديل يستحق النظر إليه؟.. وهل ثمة اختلاف في تقييم «الثمن» بين واشنطن وتل أبيب، وبالذات في حال درس خطوات مختلفة للتعامل مع طهران ودمشق كل على حدة؟

هنا تأتي حالة حزب الله.. هذا التنظيم طاقمه البشري لبناني، وقيادته المنظورة لبنانية، لكن استراتيجيته النابعة من سلطة «الولي الفقيه» إيرانية، وتمويله المتأتي بنسبة كبيرة من «الخمس» إيراني، وسلاحه، أصلا وفصلا واستخداما، إيراني!

كلام الشيخ نعيم قاسم، الذي ورد أخيرا في حفل تخريج الطالبات المشاركات في الدورات الثقافية التي يقيمها حزب الله عن «التآمرين» الغربي والعربي على الحكم السوري، ليس جديدا. وطبعا ليس جديدا تكلمه على أساس أن الحزب هو السلطة الفعلية في لبنان، بقوله «لبنان لن يكون معبرا للاعتداء على سوريا رغم كل التحرشات وكل التحركات التي يقوم بها البعض في لبنان.. هذه الأدوات التي تحاول أن تتمم خطوات أميركا في الضغط على سوريا لن تتمكن من تحقيق إنجاز في ظل هذا الواقع الذي نحن فيه في لبنان، في ظل حكومة تعمل لمصلحة لبنان، تدرك الموقف السياسي الصحيح الذي اتخذته في الجامعة العربية برفض عزل سوريا، وتدرك أهمية التماسك السياسي الذي يمنع الوصاية الأجنبية، وأن يكون لبنان محطة للتصويب على الآخرين».

المهم في كلام قاسم، ومن قبله مواقف الأمين العام السيد حسن نصر الله، أن حزب الله غدا علنا عنصر دعم وإسناد للنظام السوري في «لعبة» طائفية مكشوفة، وإذا عطفنا عليها بعض المواقف العراقية الرسمية وشبه الرسمية.. تتجلى صورة «تحالفات مواجهة» إقليمية مقلقة جدا سبق للمنطقة أن عاشت استقطابها المذهبي وتداعياته الواسعة خلال القرن الميلادي السادس عشر.

وغدا، مع احتفال لبنان بـ«يوم الاستقلال».. يطل هذا الاحتفال بعدما فرغ الاستقلال من مضمونه تماما. ولئن كانت سوريا منذ عهد الأسد الأب قد نجحت في إضعاف المناعة الداخلية في «كيان» رفضت دمشق طويلا تقبل شرعيته، فإن طهران تتولى اليوم بهمة ونشاط القضاء نهائيا على مبررات وجود هذا «الكيان» عبر اختراق مكوناته الطائفية.. ترغيبا بالمال وترهيبا بالسلاح.

بداية، تمكنت طهران، منذ بعض الوقت، من الاستيلاء على مقدرات الطائفة الشيعية. واليوم، يتأكد هذا الاستيلاء يوما بعد يوم ليس عبر حركة «أمل»، التي رعى تأسيسها الإمام موسى الصدر إبان الحرب اللبنانية باسم «حركة المحرومين»، بل بشكل سيطرة إيران المباشرة عبر حزب الله.

بعد ذلك حققت طهران اختراقها الأكبر والأخطر للمسيحيين، بشقها صفوف الموارنة عن طريق استخدام ميشال عون و«تياره» ومحاصرة البطريركية المارونية في عهد الكاردينال نصر الله صفير. مع العلم بأنه ما كان صعبا اختراق - أو ابتزاز - الطوائف المسيحية الأخرى، لا سيما تلك التي يحمل بطاركتها الجنسية السورية، ويزيد عدد رعاياها في سوريا على عددهم في لبنان. كذلك، كان سهلا كسب غالبية الأرمن لسببين: الأول، وجود جاليتين أرمنيتين كبيرتين في كل من إيران وسوريا. والثاني، عداء الأرمن القديم لتركيا «المسلمة السنية» وميلهم لأي قوة إقليمية تناهضها.

ولم تنس طهران الأقليات الشيعية الباطنية في لبنان، فأكملت دور النظام السوري.. وزادت عليه. وهي اليوم، بعد «الحرب الباردة» التي شنها الرئيس بشار الأسد و«الجيل الثاني» من القيادة السورية على وحدة الدروز في لبنان بحجة أنه - أي الأسد - لديه من التأييد في صفوف الدروز أكثر مما لوليد جنبلاط، تدخل في «الحُرُمات» حقا. فحزب الله يشتري الأراضي ويتوسع في قراهم وبلداتهم، والسفارة الإيرانية تؤسس المستشفيات والمدارس للعملاء والمحاسيب و«الشبيحة» من الدروز، كما تخصص طهران لهؤلاء الميزانيات الدسمة لتغذية تنظيماتهم المصطنعة، وتحضهم على تفجير مؤسساتهم ابتداء من مشيخة العقل (أرفع الهيئات الدينية) ووصولا إلى تسيير الأوقاف، وتدفع بعض ممثلي «محور طهران - دمشق» إلى تهميشهم انتخابيا عبر قانون انتخاب جديد يشق صفوفهم ويخلق لهم ممثلين عنهم بأصوات غيرهم.

وبعدما كانت «دمشق الأسد» قد وضعت يدها على جزء كبير من العلويين في شمال لبنان، ورث حزب الله - ومن خلفه طهران - المهمة الآن، تمويلا وتسليحا وتدريبا، في طرابلس.. أحد أكبر تجمعين سكانيين سنيين في لبنان.

أما على الساحة السنية نفسها، فقد استغلت طهران ومعها دمشق، الأخطاء التكتيكية العديدة التي وقع فيها الشارع السني منذ 2005، ساعية لاجتذاب واصطناع وإحياء قيادات بديلة ذيلية تابعة لها. وللأسف، يظهر أنها لم تفشل في ذلك تماما حتى الآن، بدليل أن الحكومة الحالية لا تزال قائمة.. بل، وممنوعة من الاستقالة!

وأخيرا وليس آخرا، نصل إلى ميشال عون. عون قال الأسبوع الماضي علنا ما دأب وأتباعه على قوله للمسيحيين سرا، وهذا طبعا قبل أن يكشف البطريرك الجديد بشارة الراعي «المستور».. ويحذّر من باريس من «البعبع الإسلامي».

ففي عشاء لهيئة المعلمين في «التيار الوطني الحر»، قال النائب الجنرال «رفعنا شعار (أرضي هويتي)، وهو ليس مزحة، لأن أرضا بلا شعب هي مشاع، وشعبا بلا أرض هو لاجئ، ونحن لا نريد أن تكون أرضنا مشاعا ولا أن نكون لاجئين، بل أن نحتفظ بأرضنا وبهويتنا (!)». وتابع «تتابعون ما يحصل في سوريا، ونحن نستطيع أن نساعد لتكون النتيجة سعيدة، لأن أي سلبية عن هذه الأحداث ستشمل لبنان، ونحن، بين مساعدة دولة دينية سلفية متعصبة ودولة مدنية، نختار مساعدة الدولة المدنية (...) ونصيحتنا هي أن الحوار أفضل وسيلة للتوصل إلى حل سليم يبني عهدا جديدا من الديمقراطية والحريات العامة، وخلاف ذلك سيؤدي إلى الكارثة، وعلى كل الدول العربية».

الجنرال لا يريد أن يرى أو يسمع شيئا لا يناسبه أن يراه وأن يسمعه، مع أن نسبة لا بأس بها من ناخبيه في جرود جبيل وعدد من مناطق كسروان والمتن وأطراف جزين.. يرون ويسمعون ويقلقون.

والجنرال انتقائي أيضا في موضوع أي «دولة دينية» يحالف.. وأي «دولة دينية» يقاتل. ثم إن «المهمة» الموكلة إليه هي في الأساس إلغاء وجود «الدولة المدنية» التي يفترض أنها الضامن الأول لمواطنية المواطن، بغض النظر عن هويته الدينية، فوق أرضه.

عون، كما تفيد تقارير صحافية نشرت أخيرا عن تحركات لمقربين منه في واشنطن، ما زال متحمسا جدا لـ«تحالف الأقليات» في وجه «الأصولية» السنية. والمعروف أن مفهوم «تحالف الأقليات» كان دائما في صميم مصالح إسرائيل وخططها، ولكن اللافت اليوم أنه غدا نقطة التلاقي الفكري والمصلحي.. القديم الجديد بين إسرائيل وإيران.