خسائر إيران في العراق وبسببه

TT

هل أرادت إيران أن تقتل البعوضة بالمدفع، فخالفت وصية المفكر الصيني كونفوشيوس (551 - 471 ق.م)، الذي حذر من خطورة سلوك من هذا النوع، ضمن وصاياه للقادة السياسيين والعسكريين في العالم؟ الإجابة عن هذا السؤال تكشف عن اختيار المسؤولين الإيرانيين، مع سبق الإصرار، لهذا الطريق بعد غزو الولايات المتحدة العراق ربيع عام 2003، فاستقوت بالمدفع الأميركي لقتل البعوضة التي تجردت من جميع وسائل الدفاع الداخلي والخارجي، إلا أن ذلك تسبب في خسائر جسيمة تكبدتها إيران على مستويين، أحدهما داخل العراق، والثاني خارجه، وهذه الخسائر كانت في العراق وبسببه.

قد يبدو الحديث عن خسائر إيرانية كبيرة في العراق وبسببه، مخالفا لكل ما يتم تداوله في الأوساط السياسية العراقية والعربية والدولية، إذ تنكب التحليلات على حجم المغانم التي حصدتها إيران خلال سنوات احتلال العراق الثماني، لدرجة أن البعض يضع البيدر الإيراني في القمة، ولا يتطرق أحد إلى الخسائر الإيرانية التي نؤمن بالجزم بأنها هائلة.

بدأ مسلسل الخسائر الإيرانية داخل العراق منذ أن برز التناقض بين الشعارات التي تم تداولها قبل انتصار الثورة الإيرانية عام 1979 بقيادة آية الله الإمام الخميني، وأصبحت أهم جسور ومعابر إيران إلى العالمين العربي والإسلامي في حقبة ما بعد الثورة، منطلقة من المبدأ المعلن في محاربة (الشيطان الأكبر) أي الولايات المتحدة، وأنها تعمل على تحرير فلسطين من الإسرائيليين، ولأن الإيرانيين لم يصطدموا بواقع يختبر صدق تمسكهم بهذه الشعارات قبل غزو العراق، فإنها وجدت طريقها بيسر وسهولة إلى الكثير من النخب العربية والإسلامية، وفي مقدمة هذه النخب الإسلاميون والقوميون العرب، فهي تناغي تطلعاتهم وتنفذ طموحاتهم الحالية والمستقبلية، وبهذه الجزئية الخطيرة وجد عدد من العراقيين صعوبة بالغة في إقناع هؤلاء بحقيقة (المشروع الإيراني) في المنطقة، وحتى عام 2005 وأواخر عام 2006، لم يكن من السهل إقناع الكثير من هؤلاء بالتناقض الهائل بين (شعار معاداة الشيطان الأكبر) وسلوكيات الحكومة الإيرانية في العراق، التي دعمت وعملت ما بوسعها لتثبيت المشروع الأميركي في العراق، وفي جلسة طويلة مع خالد مشعل، رئيس المكتب السياسي لحماس، عام 2007 قال لي: «إن حماس تتفق بكل شيء مع الإيرانيين، إلا أنها تختلف معها بالملف العراقي». أردف مشعل: «إلا أنه لا دليل على تدخل إيراني في العراق». قلت له بإمكاني إجابتك بنقطتين بهذا الخصوص، الأولى بماذا تفسر إسراع الحكومة الإيرانية لتهنئة ومباركة مجلس الحكم الانتقالي، من خلال وزير الخارجية الإيراني، الذي أسسه الأميركيون في يوليو (تموز) عام 2003 وهم قوة احتلال، وكان هذا المجلس قد تم تشكيله من قبل الأميركي بول بريمر الذي وصل بغداد بتاريخ 13/5/2003، في الوقت الذي تقف فيه حكومة إيران بصلابة وقوة ضد ما يسمى بحكومة قريبة من الاتجاه الأميركي في لبنان، في حين تبارك وبقوة (مجلس الحكم) المشيد من ألفه إلى يائه من قبل (الشيطان الأكبر الأميركي)؟ أما الجانب الآخر الذي أشرت إليه في حديثي مع مشعل، فيتعلق بالدعم الإيراني المطلق للعملية السياسية وحكوماتها، وفي المقدمة الدستور الذي يفتت العراق ويقسمه على أساس الطائفة والعرق.

قد تكون هذه الطروحات بمثابة تقديم مؤشرات وحقائق دامغة، إلا أنها لم تكن قادرة على إزاحة قناعات لدى الكثير من النخب العربية والإسلامية، بسبب تراكميتها لمدة ثلاثة عقود بعد الثورة الإيرانية عام 1979، إلا أن زيارة الرئيس الإيراني أحمدي نجاد إلى بغداد والبقاء ليلة كاملة في حماية قوات المارينز الأميركية في أوائل مارس (آذار) 2008، ووصفه للمعارضين للعملية السياسية التي صنعها (الشيطان الأكبر) بـ(الفاسدين والمفسدين)، في الوقت الذي يزخر فيه الخطاب الإيراني بالعداء المطلق لأميركا. جاء كل ذلك ليعزز الحجة التي يتمسك بها العراقيون الحريصون على وحدة العراق، وتصديهم لأية جهة تحاول العبث بالوحدة المجتمعية العراقية، سواء كانت أميركية أو إيرانية أو عربية أو عراقية.

من هنا نقول إن أكبر خسائر إيران قد حصلت نتيجة فقدانها للأصوات الكثيرة التي طالما دافعت عن إيران وعن مشروعها (المقاوم) لأميركا وإسرائيل، فخسرت الكثير من دعائم مشروعها الذي أخذ مسؤولية تسويقه مفكرون وسياسيون ونخب مختلفة (غالبيتهم بحسن نية)، فارتكبت الخطأ الأكبر، بل استعجلت في قراءتها للواقع العراقي، واعتقد أصحاب القرار الإيراني أن القوة العسكرية الأميركية لن تتزحزح على الإطلاق عن العراق، وما عليها إلا فرش أجنحتها تحت مظلة هذه القوة.

فخسرت إيران في العراق، بعد انكشاف أمرها بدعمها للمشروع الأميركي، كما خسرت الكثير من مرتكزاتها وعناصر قوتها في العالمين العربي والإسلامي، وقبل ذلك في داخل العراق، لدرجة أن المرء لا يجد من يجادل الآن حول التناقض الهائل بين شعارات معاداة الشيطان الأكبر ودعم مشروعه بالعراق، بعد أن كان الكثيرون مستعدين «للاستشهاد» في سبيل الدفاع عن إيران، ونلمس هذا التراجع بقوة خلال لقاءاتنا مع (المحاربين القدامى) إلى جانب إيران، والمدافعين عنها في المؤتمرات والندوات التي تقام بين فترة وأخرى.

ونستطيع قياس حجم الخسائر الإيرانية في العراق وبسببه لو تخيلنا إيران وقد منعت الأحزاب الموالية لها من المشاركة في العملية السياسية، ورفضت التعامل مع أي حكومة منصبة من قبل الاحتلال الأميركي، عندها لأصبحت حجة المؤيدين لها قوية جدا، بالمقابل لا حجة لمن ينتقد إيران على الإطلاق؛ لتطابق شعارات معاداة الشيطان الأكبر مع سلوكها السياسي، إلا أن رغبتها في اغتنام الفرصة أضاعت عليها الفرصة الكبرى.

فإذا فشل المدفع الإيراني في اصطياد البعوضة – كما قرر كونفوشيوس - فهل يستبدله القائمون على القرار في إيران بـ(العقلانية) لبناء علاقات مع الجميع تنسجم واشتراطات العصر؟

* كاتب عراقي