«حماة الديار»: 62 سنة بلا حياء وبلا ديمقراطية

TT

قبل 61 سنة، حمل الدكتور ناظم القدسي مشروعا لاتحاد ديمقراطي أرقى من الجامعة العربية. وطاف به عواصم العرب. استقبل العرب رئيس وزراء سوريا بترحاب. ورفضوا مشروعه بإباء.

عاد القدسي خائبا. خجلا. لكن لم يفتح فمه بكلمة. لم يشتم العرب. لم يقل «طز» في الجامعة، كما فعل يوسف الأحمد «صهر العيلة» وسفيرها لدى الجامعة والقاهرة.

بكى الدكتور سامي الدروبي، وهو يقدم أوراق اعتماده، إلى جمال عبد الناصر، سفيرا لعسكر البعث (صلاح جديد وحافظ الأسد). فلم يخطر في باله أن الوحدة السورية / المصرية ستنهار، وسيصبح هو سفيرا لدولة الانفصال. فرض عليه إيمانه القومي أن يتجاوز آلام الانفصال ومقالب العسكر، ليقوم بالمهمة الدبلوماسية الصعبة.

كان حافظ الأسد دبلوماسيا. يتكلم بنعومة. ويحمل سفراءه ووزراء خارجيته هراوة غليظة. ثم يغيرهم كلما أصبحت هراوتهم «تخبط خبط عشواء»، كناقة شاعر الجاهلية زهير بن أبي سلمى. يبدو أن سفير العيلة اقتحم وزراء خارجية العرب، على ظهر ناقة فالتة من موقعة الجمل في ميدان التحرير.

صرف الأسد الابن وزير خارجيته فاروق الشرع. فقد غدت هراوته ثقيلة الوطأة على مريض أجرى عملية قلب مفتوح. احتفظ بشار ببعير في مربط خيله الدبلوماسي. لم يكن المعلم وليد بأفضل وأعلى مستوى من السفير (الطز) في القاهرة. خرج المعلم إلى العراء، ليتهم العرب بـ«قلة الحياء»!

لماذا قلة حياء العرب؟! لأن وزراء وسفراء 18 دولة عربية طالبوا بسحب دبابات «حماة الديار» من مسارح القتل التي نصبوها في المدن والقرى السورية الشهيرة، المفروض بهم أن يكونوا حماة لها! دوخ «بعير العيلة» العرب، وهو يفاخر بـ«الجيش العظيم» الذي فتح بلاد الهند والسند، ولم يطلق رصاصة في الجولان المحتل.

وهكذا، من دبلوماسية القدسي والدروبي الرفيعة، إلى دبلوماسية البعثية، دبلوماسية الاستفزاز للعرب. والاستخفاف بهم، والاستعلاء عليهم. وإذا كانت هذه الدبلوماسية قد انكشفت أمام العرب والعالم، فلا بد من كشف وفضح حقيقة «الجيش العظيم» الذي تتستر هذه الدبلوماسية المتخلفة على تاريخه.

«أسد علي. وفي الحروب نعامة!». مضت على استقلال سوريا 65 سنة. منها ثلاث سنوات ديمقراطية فقط (1946/1949). و62 سنة من قلة الحياء. وقلة الحرية والديمقراطية. المصيبة ببعير الدبلوماسية أنه يدري. المصيبة به أعظم، لأنه يشرب نخب «الجيش العظيم» حتى الثمالة.

أتمهل عند محطات في مسيرة «حماة الديار» لأروي للأجيال السورية والعربية شيئا عن حقيقة جيش كان من المفروض إعادة بنائه وطنيا، منذ اليوم الأول لاستلامه من فرنسا. غير أن نظام شكري القوتلي لم يكن من القوة والوعي، بحيث ينفذ عملية البناء.

لتغطية هزيمتهم في حرب النكبة (1948)، روع الضباط الكلاسيكيون سوريا بسلسلة انقلابات (1949/1954). قضوا على ديمقراطية الاستقلال الوليدة. ثم قلبوا بعضهم بعضا معتمدين على ارتباطات خفية وظاهرة، مع بريطانيا وأميركا.

ثم جاء دور ضباط الآيديولوجيا في قلة الحياء والوفاء. عندما أخفق حزب البعث في تشكيل أغلبية نيابية حاكمة (1954/1958)، تولى أكرم الحوراني عسكرة الطائفة العلوية، بدفع أبنائها إلى الكليات العسكرية. بعد سنوات قليلة، تمرد هؤلاء على الراعي والعراب الذي ظن أن باستطاعته فرض اشتراكية المساواة والعدل الاجتماعي، من خلال طبقة عسكرية.

عرف ضباط الطائفة كيف يستغلون الصراع خلال الوحدة مع مصر، بين البعث وعبد الناصر. عندما أدرك الحوراني خطأه التاريخي، حاول في عهد الانفصال (1961/1963) هدهدة غلواء ضباط الطائفة والآيديولوجيا. لكن الوقت كان قد فات. فقد كانوا من المهارة، بحيث أذكوا الصراع بالتفافهم حول عفلق والبيطار، ضد الحوراني شريكهما السابق في الحزب.

بقدر ما يسمح أدب صحيفة رصينة، رويت للأجيال الجديدة، على مدى أسابيع، كيف تمكنت النواة الصلبة الطائفية (ضباط اللجنة العسكرية العلويون) من سرقة انقلاب 1963، من شركائهم الضباط الناصريين والمستقلين. ثم إنهاء الحياة السياسية لقادة البعث الثلاثة، بسلسلة انقلابات وتصفيات.

بسبب عدم وعي السوريين بقيم الحرية والاستعداد للتضحية بالحياة من أجلها، كما يفعلون اليوم، جرت تلك الصراعات الحزبية. الطائفية. الشخصية، بمعزل تام عن الشعب. ألغى عساكر الطائفة ثم العيلة، الحياة السياسية منذ عام 1966 إلى الآن. تم تغيير تركيب الجيش العضوي: ضباط الفرق المدرعة وجنود الدبابات علويون. المجندون غالبيتهم سنة (300 ألف جندي) خاضعون لنظام تجنيد أقرب إلى البطالة المُقَنَّعَة، والسخرة كخدم في مكاتب كبار الضباط المترهلين. وفي بيوتهم ومزارعهم.

نحن الصحافيين لم نجرؤ على النشر. أغلقت الصحف. أممت نقابة الصحافة. ألحقت بنقابة عمال المطابع. حتى بيت النقابة (منزل رئيس أسبق للدولة) تحول إلى معتقل مخابراتي. في مذبحة الصحافة 1963، أصابني ما أصاب بعض زملائي. أغلقت الصحيفة التي أعمل فيها. وأغلق مكتب الوكالة التي أراسلها. وهاجرت. مع من هاجر للعمل في صحافة المنافي.

خطأ الإخوان المسلمين، في التعامل بطائفية العنف والاغتيال، مع طائفية نظام حافظ الأسد، مكنه من الحكم بواسطة الأجهزة الأمنية غير المسؤولة التي حيدت حتى الجيش العامل. وهيمنت على الإدارة المدنية.

في الانتفاضة، ارتكب حكم العائلة خطأ التعامل بالقتل والقمع مع المهمشين والمحرومين في الريف. ظن النظام أن بالإمكان سحقهم، كما فعل في حماه قبل ثلاثين سنة. النظام المغلق. والمتخلف. لا يستطيع أن يقرأ المتغيرات.

بعد عجز الأجهزة الأمنية. والشبيحة. وجيش العائلة (الفرقة الرابعة)، تم إنزال الجيش. ليس في الإمكان تسليط مجندي السنة في الجيش، لقتل سنة الريف. سينفرط عقد الانضباط في الجيش. سوف يجد «حماة الديار» أنفسهم ضباطا بلا عسكر. بلا حياء. بلا ديمقراطية.

حرب أهلية؟ تنظيرات. تكهنات عربية. ودولية. حتى فصائل المعارضة السورية تغرق في قراءة الفنجان. المجلس الوطني ليبرالي. إخواني. ساسة هواة. بلا خبرة. بلا تجربة. أفقدتهم حياة المنفى الاهتمام بتفاصيل الوطن البعيد.

حرب أهلية بين من ومن؟! هل من المنطق التكهن بحرب أهلية بين السنة والسنة؟ الكتل السكانية المنسجمة دينيا. وقوميا لا يقاتل بعضها بعضا. الجزائر برهان ودليل. القتال اقتصر على الجيش. الإسلام «الجهادي» أخفق في زج المجتمع معه في الحرب.

الحرب الحقيقية. في سوريا، تنشب بين جيشين: جيش متمرد ينمو. يتسلح. وينتقل إلى الهجوم. وجيش عامل يتآكل يوميا. حماة الديار. والطائفة. والعيلة يخسرون، عاجلا أو آجلا، حربا بادروا إلى شنها. ولم يعودوا قادرين على إطفاء لهيبها. إذا نجح الجيش المتمرد في عسكرة الانتفاضة، سيتولى غدا «كش» هواة المعارضة. من لا يصدق. فليسمع ما قاله رياض الأسعد جنرال الانتفاضة لـ«نيويورك تايمز» من ملجأه في تركيا. خاط الأتراك له ثوبا مدنيا، ليقول إنه هو قائد الانتفاضة!

من نصدق؟ غليون الجيش السوري الحر؟ أم غليون المجلس الوطني؟ أين الخلي من الشجي؟ أين غيب رماة البيض الفاسد هيثم المالح؟ حسني عبد العظيم؟ عبد الرزاق عيد؟ ميشيل كيلو؟