ديمقراطية العرب.. الكويت مثالا

TT

لا يلقاك عربي إلا ويشيد بديمقراطية الكويت، إلا أنها كمثل الفتاة اللبنانية، متحررة من الخارج محافظة من الداخل، فالتي اعتقد الآباء أنها حل أصبحت مشكلة. لقد صدم تيار واسع من الكويتيين الأسبوع الماضي باحتلال البعض لمجلس الأمة والعبث ببعض محتوياته، هو آخر مكان كبيت للأمة يمكن أن يتصور أحد أن ينتهك باسم الديمقراطية، وكاد الرأي العام الكويتي ينشق إلى نصفين، ليسا بالضرورة متكافئين، نصف مبرر ونصف شاجب. إلا أن التبرير والشجب لا يشبع من جوع الإصلاح ما أفسدته الممارسة، والتحليق بالتجربة الديمقراطية إلى آفاق أعلى كما تصورها الحالمون. التعامل مع الواقع له وجهان، تعامل مع واقع وهمي ليس موجودا إلا في ذهن البعض، والتعامل مع الواقع الحقيقي هو الذي يقوم على التحليل الموضوعي والبحث عن الحلول. القرار السياسي كما يقول المثل الفرنسي كالسمكة، إن تأخرت عليها ساعة فسدت. ولقد تأخر القرار الكويتي في التقدم إلى الأمام سنوات وليس ساعات.

الحقائق تقول إن في الكويت آلية سياسية من خلالها تسيّر الأمور، وهذه الآلية هي ما قررته نصوص الدستور والقوانين المتفرعة منه، الذي مضى عليه الآن أكثر من نصف قرن، تغيرت فيه البلاد، ونفوس العباد. وواضح من الأزمات السياسية المتتالية في الكويت أن تلك الآلية وجب أن تتغير. فهم البعض للديمقراطية أن تكون رياحها مواتية دائما في أشرعته، أما إذا تعاكست الرياح مع تلك الأشرعة، فهي إذن ممارسة سلبية عوجاء وجب أن تقوم إن لم يكن باللسان تحت القبة، ففي التجمهر في الساحات ومن ثم اكتساح المكان الأكثر تمثيلا للأمة، مكان انعقاد الجلسات، الرمز الذي يشكل تاريخ الديمقراطية الكويتية.

لا يجادل أحد بأن سلسلة الانتخابات التي جرت قبل عام 2009 (الأخيرة) كانت مخيبة للآمال، مما جعلها تحل دوريا، إلى درجة أن قطاعات شعبية واسعة أصابها الإحباط، كما لا يجادل أحد بأن ميكانيكية الانتخابات الكويتية بشكل عام، هي ميكانيكية عادلة إلى حد كبير، تشارك فيها نسبة عالية من المواطنين، وتجري بشفافية كبيرة، عدا التجاذبات الانتخابية المتوقعة، وأيضا التحالفات التكتيكية التي هي في الغالب من ضمن تقاليد «اللعبة». سير الانتخابات في الأغلب الأعم هو أفضل بكثير من أي انتخابات تجري في المنطقة من حيث عدم التدخل المباشر والتمثيل الصحيح لمزاج الناس، كما لا يجادل أحد بأن اللعبة الديمقراطية (إن صح التعبير) لها قواعد متفق عليها في كل الممارسات بألوانها المختلفة غربها وشرقها، أي إن هناك أغلبية وأقلية، ومتى ما مالت الأغلبية إلى أن تكون أقلية أو العكس، تبدلت المواقع السياسية. الإضافة في «اللعبة» الكويتية أن بعض الكبار يدخلون بعض اللاعبين بالإنابة لحسابهم أو يستهوونهم بعد وصولهم إلى السدة البرلمانية، وهنا لا أحد يقطع بأن ذلك واقع أو خيال، حقيقة أو تقول، لأن كشف النيات عملية تكاد تكون مستحيلة. الحقيقة الأخرى أن انتخابات 2009 جاءت نتائجها متسقة مع الإحباط في الدورات السابقة، فمال مزاج الناخب الكويتي في الغالب إلى «المعتدلين» أكثر من «المشاكسين»، وهي عملية طبيعية في الدورات الانتخابية المعتادة.

للكويتيين تجربة مهمة لها علاقة ببلدهم وبنتائج الديمقراطية في آن، وهي عندما كتم كل كويتي أنفاسه قبل عشرين عاما وهو يراقب التصويت في مجلس الشيوخ الأميركي، إبان الاحتلال العراقي للكويت، وقتها جرى التصويت على الملأ، وكان متقاربا في الأصوات، الفرق بين تحرير الكويت أو عدم التدخل لتحريرها كان صوتا واحدا في تلك الليلة التاريخية، لا غير. لم تنزعج الأقلية التي انهزمت بصوت واحد لا غير، والكارهة للحرب، ولم تقم باحتلال مبنى الكونغرس احتجاجا، بل انصاعت إلى آلية مقررة مسبقا. إذا كان الأمر أن المجلس الذي انتخب عام 2009 مجلس لم يقم بدوره، فإن الاحتمالات الممكنة إما أن يترك، عن طريق الخروج منه، وإما الانتظار للدورة المقبلة، وهي أصلا قريبة جدا، في عمر شهور، من أجل العودة إلى الناس، ووقتها يقرر الجمهور الناخب من يريد أن يمثله. هذا إذا كان هناك قناعة أولا بالآلية الديمقراطية، وثانيا بوعي الناس، وأنهم قادرون على تمحيص النافع لهم من الضار، فميدان السياسة هو ميدان العرض والطلب، والربح والخسارة، والحوار والمناقشة، والتقدم والتراجع، وليس فيه حكم أبدي وغلبة دائمة، أو حتى خسارة دائمة. وإذا كان الأمر يرجع إلى نقص في القوانين، فعلى المشرعين سد ذلك النقص، وإذا كان هناك اتهامات موثقة فمكانها المحاكم. في السياسة هناك عملية إقناع سواء من داخل المؤسسة أو من خارجها، كالتأثير على الرأي العام بواسطة الإعلام، وإن كان هناك تحشيد فهو يتم بالطريق السلمي المتعارف عليه. أما اقتحام المؤسسات فهو ليس من ضمن قواعد اللعبة، وخاصة اقتحام بيت الأمة.

لقد تناولت وسائل الإعلام العالمية ما حدث في الكويت الأسبوع الماضي على أنه جزء من رياح «ربيع العرب»، وواضح أن ذلك التناول فيه الكثير من المبالغة، كما وجفت قلوب كثير من الكويتيين على تجربتهم الديمقراطية وعيشهم المشترك لما وجدوا أن الخلاف قد طال الممارسة دون قواعد تحترم ولا حدود يوقف أمامها، فميدان السياسة هو ميدان العرض والطلب والربح والخسارة، والحوار والمناقشة والتقدم والتراجع، إلا أن السمة الغالبة فيه، هو عدم احتكار الحقيقة لأي طرف.

الحلول الممكنة هي حلول سياسية وغيرها لا يجدي ولن يجدي. لا ديمقراطية دون تعددية، وهي البنت الشرعية للممارسة الديمقراطية، ولا تعددية دون تيارات أو منابر أو أحزاب، سمها ما شئت، وإذا لم تنظم تلك التيارات قانونيا وبعيدا عن الطائفية والقبلية والأسرة الممتدة، فسوف تتمحور حول تلك التجمعات الاجتماعية التقليدية المشكو منها بلا ريب، كما أن تلك التعددية لا تكتمل إلا إذا كان من يترشح للخدمة ممثلا للناس، تكون له قاعدة تحاسبه بشكل منظم ودوري من خلال تلك المنابر أو التيارات.

اليوم في تجربة الكويت يترشح النائب وينجح ولكن تنقطع صلته إلا من مجموعة صغيرة في طائفته أو قبيلته أو محازبيه، يجلب لها المنافع على حساب الكفاءات، ويطلب متخذ القرار في السلطة التنفيذية رضا ذلك النائب، فيمرر له مصالح، أيضا على حساب الناس، وغالبا خارج القانون.

التجربة أيها السادة، عرجاء وعليلة، ستظل عرجاء عليلة، إذا تركت تسير كما كانت في السنوات السابقة، لقد تبين لكل ذي عقل أنها أصبحت جزءا من الأزمة. العالم من حولنا يتغير، ومن لا يسير مع التغيير فقد تجرفه العواصف، كما أن التقاعس عن تقديم الحلول الابتكارية يعني استمرار الأزمة وتضخمها حتى تصبح داء عضالا لا ترياق له، إلا - لا سمح الله - بالاستئصال.

آخر الكلام..

نقلت قناة «العربية» لقاء مع عبد الحليم خدام، قال فيه إنه في فترة الوصاية السورية على لبنان اتفق أن يقوم بعض قادة الجيش اللبناني بانقلاب عسكري ضد سليمان فرنجية رئيس الجمهورية المتشدد، فاستشير المرحوم كمال جنبلاط عدو فرنجية السياسي، ولكن رد الأخير «كان (مية) سنة فرنجية، ولا يوم واحد عسكر».. يا له من حكيم!