بين التغريد.. والجهل

TT

العالم الافتراضي الكبير، المعروف باسم الفضاء الإلكتروني، الذي يعتبر الإعلام الاجتماعي أبرز أدواته اليوم، شتان الفرق في استخدامه بين العالم الصناعي الأول والعالم الثالث عموما، والعالم العربي منه تحديدا وعلى وجه الخصوص. ومن أهم أدوات الإعلام الاجتماعي اليوم، كما بات معروفا، هو موقع «تويتر» وليس «فيس بوك» كما قد يكون مشهورا للأكثرية.

فموقع «تويتر»، الذي ابتدع بث مقولة (تسمى تغريدة) مكونة من 140 حرفا فقط بشكل فوري، أصبح الآن الموقع الأكثر نموا بين الناس، وبالتالي الأكثر تأثيرا؛ نظرا لقدرته على نقل فكرة سريعة ومختصرة بشكل آني ومباشر، وهو أجبر الناس على تطبيق عملي للقول المشهور: «ما قل ودل». في معظم الأحيان تستخدم التغريدات في موقع «تويتر» بالغرب لنقل الآراء الشخصية والأخبار الخفيفة والتعارف وفتح مجال النقاش وتبني الأفكار، وهو ما يظهر من المواضيع المعتمدة التي يطلق عليها كلمة «الهاشتاق». عربيا تأخذ النقاشات والتغريدات طبعا حادا مليئا جدا بالتشكيك والتخوين والقلق والإهانة، فتظهر بجلاء العلل والأمراض بمختلف أشكالها، من طائفية بغيضة إلى عنصرية مقيتة إلى تعصب أعمى إلى تنطع جاهل يعكس، كمرآة ساطعة، الحال السياسي والاجتماعي والثقافي الموجود، وذلك لانعدام المنابر الصحية الموجودة في أي مجتمع مدني حر وعصري لامتصاص كل هذه الشحنات التي من الطبيعي أن تكون موجودة في المجتمعات كافة.

الحكومات ترتاح لوجود هذه العوالم الافتراضية لتكون ساحة مناسبة للفضفضة و«فشة الخلق» وتفريغ الشحنات السلبية وإخراج ما في الصدور، لكن المسألة تظهر وجود أزمات حقيقية وشروخات اجتماعية هائلة توحي بأزمات مقبلة مؤجلة لوقت قصير جدا؛ فهذه المواجهات الافتراضية الحادة، التي تترك معلقة في الفضاء، هي النسخة العصرية الحديثة لكنس المشاكل تحت السجاد حتى تصبح جبالا صغيرة بعد زمن ليس بالبعيد. طبيعي جدا أن يكون هناك تباين في الآراء داخل المجتمع الواحد وأن يكون لكل فريق حجته وأدلته وبراهينه ليقوي موقفه، لكن دوما يظل في إطار الانتماء الواحد الكبير داخل الوطن وداخل الدين، والمشكلة في غياب المنابر الطبيعية لتحويل هذه التباينات إلى آراء تخدم السياسات والتشريعات لاحقا.

المتابع للتراشق «التغريدي» العربي لا بد أن يصاب بالهلع والفزع من حجم الغضب والقلق والقنوت الموجود لدى أكثرية من المفروض أنها مطلعة ومستنيرة ومثقفة، وبالتالي يفترض أن لديها الحدود الدنيا من لباقة التعاطي مع لغة الحوار وقبول الرأي والرأي الآخر وادعاء الديمقراطية والتعددية بمختلف أشكالها، لكن الواقع أن المسألة مغايرة تماما؛ فهناك لغة قمعية واستبدادية وفوقية متسلطة مليئة بمفردات العنجهية والتكفير وخيانة الأوطان والأمانة والتقليل من السمو العرقي والمناطقي وما شابه ذلك من الخزعبلات البائسة التي تكشف عن أنه حتى مع وجود أحدث وسائل الاتصالات والتقنية فإن هناك «فيروسات» من الجهل والجاهلية ومخلفات العفن تنتمي إلى عصر الديناصورات السحيق، لا عصر الإنترنت الحديث. حتى الفضاء الإلكتروني بأدواته الحديثة ووسائله المميزة مكنته فئة عريضة من أن يكون وسيلة لبث السموم والكراهية وتوسيع القلق السياسي والاجتماعي والثقافي وزيادة معدلات غليانه.

لا تفرحوا بالأعداد الهائلة المنشغلة في عوالم الفضاء الإلكتروني ومواقعه المختلفة، ولكن اقلقوا من أساليبهم وأقاويلهم وآرائهم وتوجهاتهم فيه؛ فهو قنبلة موقوتة متى ما انفجرت ستصيب شظاياها الجميع.

[email protected]