ما الذي يحدث في الاقتصاد البريطاني؟

TT

لقد طلب مني أن أكتب ملاحظاتي على الاقتصاد البريطاني خلال الأسبوع الحالي، وهنا تذكرت مقولة العالم لوي باستير، وهو عالم أحياء دقيقة وكيميائي فرنسي في القرن التاسع عشر: «الفرصة السانحة تفضل العقل المستعد فقط».

في الواقع، دائما ما كانت بريطانيا دولة يقظة وشديدة الانتباه، ودائما ما كان لديها «عقل مستعد». وتعد الفرص والمخاطر وجهين لعملة واحدة، وعملة اليوم هي المراقبة والرصد. ومنذ الحرب العالمية الثانية وحتى الآن، ظلت بريطانيا دولة تراقب وتتجنب الخطر: في البداية خطر الغزو، وبعد ذلك خطر الإفلاس، ثم من خلال موقفها الضعيف أثناء الحرب الباردة. ودائما ما تتعامل بريطانيا مع الأمور من خلال المراقبة، ثم الاستيعاب واستغلال الفرص لكي تضع نفسها في طليعة رؤوس الأموال التي تعيد تشكيل العالم الآن، وحتى تتمكن من تطوير الخدمات المالية الخاصة بها ويكون لديها اقتصاد قائم على المعرفة، وحتى تكون قادرة على تطوير صناعاتها الإبداعية والرعاية الصحية والصناعات ذات التكنولوجيا العالية.

وبما أن بريطانيا عضو في الاتحاد الأوروبي، فإنها تعد جزءا من سوق واحدة تضمن حرية تنقل الأشخاص والسلع والخدمات ورؤوس الأموال داخل الدول الأعضاء، وهو ما يسمح لبريطانيا باستقطاب المواهب من أنحاء كثيرة من أوروبا وبتعزيز موقفها المهيمن بالفعل، بوصفها واحدة من المراكز المالية العالمية الرائدة. وربما تكون بريطانيا هي أكثر البلدان انفتاحا في العالم.

ونتيجة لذلك، أصبح الاقتصاد البريطاني أقوى من الاقتصاد الإيطالي خلال الأشهر الأخيرة من عام 1997، وبعد عامين أصبح أقوى من الاقتصاد الفرنسي، وذلك بفضل النمو البريطاني القوي وقوة الجنيه الإسترليني. وقبل عام من الآن، كان الاقتصاد البريطاني أقوى من الاقتصاد الفرنسي بنسبة 8 في المائة، اعتمادا على الناتج المحلي الإجمالي. يذكر أن أسعار الصرف تؤدي إلى تغيير الترتيب النسبي لبريطانيا، ولكن الترتيب ليس مهما للغاية، إلا لبعض الاقتصاديين.

ولكن الشيء الأهم من ذلك هو أن بريطانيا لا تزال تحتفظ باقتصادها واختارت الاستمرار في استخدام الجنيه الإسترليني كعملة وطنية، بدلا من التحول إلى اليورو، وهو ما يسمح بوجود مرونة في السياسات النقدية. والأهم من ذلك أيضا أن سندات الحكومة البريطانية تجتذب دعما قويا، في تناقض حاد مع السندات المتعثرة في منطقة اليورو، حيث يبحث المستثمرون عن ملاذ آمن من أزمة الديون التي تنتقل الآن باتجاه إيطاليا وإسبانيا وحتى فرنسا. وفي حقيقة الأمر، لم تتهاون الحكومة البريطانية يوما عن تقديم مدفوعات الفائدة على سندات الحكومة البريطانية التي يحكمها الجنيه الإسترليني بشكل أساسي، والتي تصدرها وزارة الخزانة البريطانية عند استحقاقها.

وعلاوة على ذلك، شعر المستثمرون باطمئنان كبير، وذلك بسبب الجهود المضنية التي تقوم بها بريطانيا لخفض الديون الحكومية وتجنب الاضطرابات الشديدة التي تحدث في بلدان منطقة اليورو التي تعاني أزمة مالية طاحنة.

وقد تراجعت السندات الحكومية البريطانية أجل 10 سنوات خلال الأسبوع الماضي بنسبة 2.1 في المائة، قبل أن ترتفع قليلا لتغلق عند 2.2 في المائة يوم الجمعة، في حين تراجع العائد على سندات الحكومة الإيطالية أجل 10 سنوات بنسبة تعدت حاجز الـ7.0 في المائة، كما اقتربت المعدلات الإسبانية أيضا من هذه النسبة.

وبلغ معدل العائد الذي يحصل عليه حامل السندات أجل 10 سنوات في ألمانيا 1.9 في المائة يوم الجمعة الماضي، في حين وصل المعدل الفرنسي لنحو 3.5 في المائة.

وأعتقد أن عدم وجود بريطانيا في منطقة اليورو هو العامل الرئيسي وراء قوة السوق السيادية في المملكة المتحدة. إن قيام بريطانيا بتخفيض قيمة العملة على نحو فعال خلال السنوات القليلة الماضية قد مكنها من تجنب المشاكل التي تواجه البلدان الأخرى الآن. وعلى النقيض من البنك المركزي الأوروبي، كان بنك إنجلترا على استعداد لشراء جزء كبير من الدين الحكومي في المملكة المتحدة.

ويتحدث كثيرون عن المشاكل، ولكنهم لم يلاحظوا الفرص التي توجد هنا في الاقتصاد البريطاني. لقد عانت الخدمات المالية بكل تأكيد، ولكن لا تزال بريطانيا دولة رائدة ويرغب الموهوبون في العمل فيها. وتشكل الخدمات المالية 10 في المائة من الناتج المحلي الإجمالي و11 في المائة من عائدات الضرائب في المملكة المتحدة، ويعمل بها نحو 6 في المائة من إجمالي عدد السكان العاملين في بريطانيا. وقد ارتفع حجم أعمال الخدمات المالية في المملكة المتحدة خلال الربع الثالث من العام الحالي، ليواصل ارتفاعه للربع التاسع على التوالي، على الرغم من أن معدل النمو كان غير كبير في الآونة الأخيرة.

في الحقيقة، يحتاج أي اقتصاد سليم إلى نظام مالي سليم – لأنه يساعد الشركات على الاستثمار والنمو والاضطلاع بالمعاملات اليومية وإدارة المخاطر، وهو ما يدعم النشاط في كل جزء من المجتمع. وتلعب صناعة الخدمات المالية دورا مهما في دعم الشركات في المملكة المتحدة، وتساعد الاقتصاد البريطاني على النمو، كما تشكل المنتجات التي تقدمها تلك الصناعة جزءا كبيرا من الاقتصاد البريطاني في حد ذاتها، وتشكل واحدا من أفضل القطاعات في بريطانيا.

قد يعتقد الأفراد في بعض الأحيان أن التمويل هو القطاع الربحي الوحيد في بريطانيا وكم هم مخطئون في ذلك. فقد نشأت العديد من الفرص في مجالي الاستثمار والتصدير نتيجة انخفاض قيمة الجنيه الإسترليني.

ويعتبر قسم ضمانات ائتمان الصادرات، الذي يؤمن على الصادرات ضد المخاطر لعملائه في الخارج والذين يعجزون عن الدفع، وكالة ائتمان صادرات عالمية وسيغير من صورته كممول لصادرات المملكة المتحدة.

كثير من الناس يعلمون بشأن فرص الاستثمار العقاري في المملكة المتحدة ومدى جاذبيته لدى الممولين العرب، فأسعارها معقولة في الوقت الراهن بالنسبة للعملات غير المربوطة بالجنيه الإسترليني، ولكنها لا تزال تجري عبر عقود الإيجار المؤسسية الأكثر أمانا في العالم التي تشمل الإصلاح الكامل وشروطا تأمينية. وعلى الرغم من معرفة الكثير من الأفراد بشأن سوق لندن، هناك فرص متميزة في المدن الرئيسية الأخرى في بريطانيا، حيث تكون الأرباح أعلى، وأنا أعرف الكثير، بما في ذلك فرصة جديدة للتنمية في فندق مانشستر التي نشارك به.

وعلى مدى السنوات العشر الماضية، ونتيجة لاستثمار الثمانينات في الصناعات القائمة على المعرفة، تطورت صناعة الأزياء البريطانية من صناعة محلية قائمة على التصنيع إلى صناعة عالمية قائمة على التصميم تعمل في السوق العالمية. ولا تزال المنتجات الراقية تصنع في المملكة المتحدة، ولا تزال علامة «صنع في بريطانيا» تشكل نقطة مبيعات قوية. وهناك فرص كبيرة أمام الأفراد للمشاركة في هذا النجاح المتنامي.

وتشكل الصناعات الإبداعية، بدءا من الإعلان إلى العمارة والأزياء وصناعة السينما، واحدا من أسرع القطاعات نموا في بريطانيا، حيث يسهم قطاع الصناعات الإبداعية بنسبة 6 من الناتج المحلي الإجمالي ويعمل بها أكثر من مليوني نسمة، أي أكثر من العاملين في قطاع الخدمات المالية. ومن المتوقع أن يلعب هذا القطاع دورا أكبر خلال السنوات المقبلة.

وتمتلك المملكة المتحدة موهبة تصميم قوية، يقودها في ذلك كليات الفنون الرائدة، التي تشتهر في جميع أنحاء العالم، والتي تجتذب العديد من الطلاب الموهوبين من دول عديدة، الذين يتوجهون للعمل في بيوت الأزياء العالمية. ويعتبر قطاع علوم الحياة في بريطانيا أحد القطاعات الرائدة في العالم ويعمل به أكثر من 3500 شركة تعمل في مجالات التكنولوجيا الطبية والتكنولوجيا الحيوية، أضف إلى ذلك صادرات بريطانيا الدوائية التي تعتبر المورد الرئيسي لمنتجات وخدمات علوم الحياة في جميع أنحاء العالم. ويتقاطر المشترون في جميع أنحاء العالم للحصول على منتجات خدمات الرعاية الصحية والتكنولوجية من طائفة واسعة من الشركات البريطانية. كما تسعى منظمات بحوث التنمية العالمية إلى بريطانيا لإقامة شراكات مع الشركات التي تمتلك تقنيات جديدة ومناهج لزيادة وتيرة تطوير المنتجات.

وتشمل الهندسة المتقدمة كل ما هو عظيم في مجال التصنيع البريطاني، سواء أكان ذلك في صناعة الطائرات والسيارات أم أي ميدان آخر من ميادين الهندسة، وتستفيد بريطانيا من قدراتها العالمية في مجال الهندسة المتقدمة، فأجنحة ومحركات الكثير من الطائرات صممت وصنعت في بريطانيا. وفي الوقت ذاته، يأخذ قطاع السيارات زمام المبادرة في تطوير تكنولوجيا السيارات منخفضة الكربون، ومن ثم كي نختتم هذه الملاحظة بشأن الاقتصاد البريطاني، أعتقد أن هناك أسبابا للتفاؤل لدى الأشخاص الذين يملكون «العقلية المستعدة» لذلك.

* بروفسور زائر في جامعة لندن ميتروبوليتان بيزنيس سكول ورئيس شركة «ألترا كابيتال» في حي المال