«إيكاروس»!

TT

هل تذكرون قصة «إيكاروس»، الذائعة في الأساطير الإغريقية، حول ذلك الفتى الذي أراد الطيران والتحليق إلى حيث توجد السماء، ولكي يحقق والده «ديادلوس» أمنيته، وهو الصانع الماهر، قام بصنع جناحين من ريش الطيور، ولصقها جميعا بالشمع. وللمفاجأة طار الشاب وحلق بعيدا مخترقا كواكب ومسافات بعيدة حتى اقترب من الشمس التي كانت حرارتها كافية لكي ينصهر الشمع وتسقط الأجنحة والرجل معها فتكون النهاية التراجيدية، الموت؟

بعض من هذا يجري في الثورات العربية الآن؛ فهي تريد أن تحلق بعيدا عن أرض أنظمة سابقة أدانتها وتخلصت منها، لكنها لا تعرف تحديدا كيف يكون التحليق والطيران، وكل ما في الأرض من عادات وتقاليد وشعوب عاشت على نظم سابقة تجذبها لكي تبقى حيث هي واقفة. ولما يطول الوقت وينفد الصبر، فإن أجنحة الأحلام تكون أقل صلابة من تلك التي صنعها «ديادلوس» من ريش الطيور والشمع، وهي لا تحتاج إلا لوقفة نهار في ميدان التحرير بالقاهرة أو أي من الميادين المشابهة حتى ينصهر ما يلمها، فإذا هي مكانها بعد شهور من «الربيع العربي»، ليس فقط لأن الأجنحة ضعيفة أو لأن شمعها لا يتحمل حرارة، لكن لأنها لا تعرف، على وجه التحديد، إلى أين تتجه، ليس لفقر في الأفكار، لكن لأن هناك أفكارا بعدد المحتشدين في الميادين والشوارع.

لقد آن الأوان للتخلص من أسر الأسطورة اليونانية وسحر حكمتها لكي ننزل إلى أرض الواقع العربي بثوراته الكثيرة المشروعة تماما؛ لأن ما كان قائما في بعض البلدان، ولا يزال قائما في بلدان أخرى، لم يكن ممكنا استمراره. وبالمعايير السياسية العالمية فإنك لا تستطيع أن تعيش في عالم اليوم بنظم إما أنها تنتمي إلى العصور الوسطى وإما أنها تنتمي إلى التراث الذي كونه العالم الثالث خلال الخمسينات من القرن الماضي؛ لذلك لم تكن هناك صدفة أن الثورات جاءت من الشباب ومن الطبقات الوسطى بشرائحها ومطالبها المختلفة التي وجدت لنفسها مكانا في إعلام منتشر وقادر على النقل بالصوت والصورة بالحركة أو حتى بالتوصيل إلى المنازل حسب الطلب من خلال التلفزيون أو الكومبيوتر. لم يعد هناك بد من الثورة والخروج على ما هو قائم بعد أن فشل المصلحون في النقل التدريجي لنظم عربية كثيرة إلى العصر الحديث. وعلى الرغم من حديث الأجيال القديمة عن التكنولوجيا الحديثة فإنها لم تكن لديها القدرة لمعرفة معناها السياسي؛ لأنها لم تستخدمها قط. وحتى على الرغم من معرفتها بالتغيرات الجارية في أسواق بلادها وأسواق العالم فإنها لم ترَ في ذلك إلا عائدا ماديا، لكنها لم تفهم، في الوقت نفسه، تأثير حركة الأسواق هذه على ملايين العاملين والمنظمين والمهندسين والمنتجين الذين يحركونها في الداخل والخارج. وببساطة كان الشعب يتغير، لكن الحكام كانوا باقين على حالهم، بل كان لديهم عشق لكي يحيطوا أنفسهم بمن كانوا مثلهم في الجيل والعمر والتجربة. وفي الحالة المصرية، على سبيل المثال، كان الرئيس السابق حسني مبارك حريصا على أن يبقي جيلا كاملا من العاملين معه في القصر الجمهوري، وقيادة مجلسي الشعب والشورى، وقيادة الصحف القومية، والقيادات في كل الإدارات السيادية. وعندما ظهر جيل جديد عليه أن يتعامل معه في وزارة أحمد نظيف لم يكن باستطاعته التعامل معها فترك ذلك لنجله فانفجرت شائعة التوريث، ومن الجائز أن الشاب صدقها على الرغم ممَّا كان معلوما أن الرجل الكبير لم يكن مقتنعا بالفكرة وكانت القوات المسلحة لا تخفي معارضتها وهو ما كان يجعل الموضوع كله مستحيلا منذ البداية.

مثل ذلك كان صعبا أو مستحيلا استمراره، وكان المدهش ليس أن الثورة جرت في ليبيا، بل أنها تأخرت كثيرا في وجه رئيس معتوه. وما صار على ليبيا كان جليا في سوريا واليمن ودول أخرى ما زال قادتها يجدون مشكلة في فهم أسباب ودوافع التغيير الذي تريده أجيال جديدة ظهرت في عهدهم التليد.

لكن المعضلة ليست في التغيير فقط، بل لعلها تبدأ فور التغيير؛ لأنه بحكم التعريف يعني توجها جديدا، وبناء مختلفا، وعمارة لم يكن أحد يعرفها من قبل، وبعد ذلك جيل جديد في السلطة. المدهش في القاهرة، بعد المشهد المجيد لميدان التحرير، وذهاب الرئيس حسني مبارك إلى شرم الشيخ، إذا بالحيرة تنتاب شباب الثورة، فيكون أول ما فعلوه هو تسليمها لأول من اعتبر نفسه صاحب الشرعية الوحيد بحكم نقل السلطة الذي جرى من الرئيس السابق. كان في ذلك بعض من تقاليد الثقافة السياسية المصرية؛ حيث تبقى الدولة دائما مهما طرأ عليها من ملمات، لكن الخطوة لم تكن تسليما بإدارة البلاد، بل اعتقادا بأنها الخطوة الأولى نحو التحليق بأجنحة جديدة لم يكن أحد يعرف ريشها ولا نوعية الشمع الذي سوف تلصق به ولا قدرتها على التحليق ولا تحملها لحرارة الأرض، فضلا عن حرارة الشمس. وكان الرئيس الأميركي الأسبق ترومان هو الذي قال: «إذا كنت تخاف من الحرارة فلا تدخل إلى المطبخ»؛ فإذا بالشباب المصري يدخل المطبخ ثم يجد نفسه يشكو من كل شيء: من الازدحام في مساحة ضيقة ممتلئة بالساسة من كل نوع، ومن الحرارة التي يشعلها كل من اعتقد أنه هو الذي قام بالثورة أو حضر لها أو حتى كان جزءا من السلطة وخرج منها. وكم كان مدهشا أن يرشح ثوار يناير (كانون الثاني) لرئاسة الوزراء الدكتور عصام شرف عضو الحزب الوطني «المنحل»، وعضو المجلس الأعلى للسياسات، الذي تصب عليه الثورة كل اللعنات، بل ورئيس لجنة النقل فيها. وذلك كله لأن الرجل صاحبهم خلال فترة الثورة في ميدان التحرير، وتحادث وتجاذب أطراف الحديث دون مشاركة منه حتى في هتاف أو اعتصام واحد. كان الشباب ببساطة بعد أن استبد بهم حلم الطيران والتحليق بعيدا على استعداد لكي تكون أجنحتهم مصنوعة من ريش وشمع.

وربما لم أكن بعيدا عن الحقيقة عندما اتصل بي بعض الثوار السوريين، وكان تعليقي هو أن الفترة الحالية ليست فقط للثورة على نظام بشار الأسد، لكن ما يقل أهمية هو التحضير لما بعدها؛ لأنها المرحلة الأصعب والأكثر خطورة. الأسئلة الآن في مرحلة التحضير باتت معروفة: ماذا سوف تفعل مع النظام القديم؟ ماذا سوف تفعل مع التيارات الدينية؟ هل أنت بسبيلك إلى ثورة تأخذك إلى الأمام، أم تدفعك إلى الخلف؟ هل عرفت كيف انطلقت إلى الأمام شعوب ودول وأمم أخرى شرقا وغربا وشمالا وجنوبا؟ وببساطة، وقبل كل شيء، هل تريد إعادة اختراع العجلة، أم أنك تريد اختراعها من جديد؟ الأهم من ذلك كله هل تريد أجنحة من ريش وشمع أم طائرة حقيقية لها من المحركات ما يجعلها تنطلق بسرعة الصوت، ولديها من القدرات ما يجعلها تطير على ارتفاع 40 ألف قدم دون أن ينصهر لها شمع أو يحترق لها محرك؟