مصر.. سنة ثانية ثورة

TT

روح الثورة المصرية لم تمُت حتى الآن، على الرغم من المحاولات الكثيرة لاغتيالها، لكن فرحتها ماتت من زمان وشبعت موتا. في الأيام الأولى التي أعقبت الثورة كانت الفرحة عارمة والتفاؤل شديدا، خصوصا مع مشاهد التلاحم التي تبدت في الميادين، وهتافات المتظاهرين «الجيش والشعب يد واحدة»، ثم مع صور الشباب الذين خرجوا ينظفون الشوارع، ويطلون الميادين. يومها كان المتابعون للمشهد مبهورين بالروح التي نفختها الثورة في الناس، ومتفائلين بأن هذه الروح ستمكن المصريين من اجتياز الصعوبات التي عادة ما تطغى على المراحل الانتقالية.

اليوم وبعد عشرة أشهر، تقريبا، تبدو الصورة مختلفة تماما؛ فالإحباط حل محل التفاؤل، والصراعات والتجاذبات قضت على التلاحم الذي أنجح الثورة، وهتافات «الشعب يريد إسقاط النظام» ارتفعت من جديد وسط مشهد المواجهات بين المحتجين وقوى الأمن، الذي يكاد يبدو متشابها مع المشهد في يناير (كانون الثاني) الماضي. المتربصون بالثورة يتطلعون بشماتة وبفرح إلى ما يجري، لكن هؤلاء، على أي حال، كتبوا نعيهم لها منذ أيامها الأولى، وقالوا إن العرب من دون كل خلق الله لا تنفع معهم الديمقراطية، وإن المصريين سيترحمون على أيام مبارك.

الخائفون على الثورة أحسوا بالقلق وهم يشاهدون السرعة التي اختطفت بها، والمحاولات المسعورة لتهميش شباب الثورة، ولاستبعاد شخصيات مستقلة قامت بدور كبير في التغيير الذي حدث. الثورة لم تكن من أجل الأحزاب التي سارعت إلى ركوبها، وتنازعت على جني مكاسبها، بل كانت تعبيرا عن إحباط الناس من النظام السياسي بحزبه الحاكم وأحزابه المعارضة، وتوقهم إلى التغيير والانتقال إلى ديمقراطية تغير المشهد وتتيح بروز قيم جديدة وصعود وجوه قيادية لم تتلوث بأخطاء الماضي. المشكلة أن الأحزاب والقوى السياسية لم تفهم الرسالة، ولم تحاول تكييف نفسها لاستيعاب مطالب شباب التغيير وميدان التحرير، بل حاول كل منها، بشكل أو بآخر، أن يصور نفسه على أنه قلب الثورة ومحركها. وفي زحمة التنافس على الغنائم فشلت القوى السياسية في الاتفاق على آليات المرحلة الانتقالية وفي التوافق على أساسيات الدستور الذي يفترض أن يؤسس للديمقراطية الجديدة ويحميها ممن قد يفكرون في احتكارها أو مصادرتها، أو في النكوص عنها والانقلاب عليها.

مصر عادت إلى الثورة اليوم؛ لأن الثورة الأولى لم تكتمل، وجُمَع الغضب المتتالية التي أعقبتها لم تؤدِّ إلى تحقيق المطالب أو بث روح الطمأنينة وإزالة المخاوف والشكوك التي طغت على الساحة؛ فغالبية الناس فقدوا الثقة في النظام الانتقالي، وباتوا يتخوفون من تأخير متعمد لإطالة أمد هذه الفترة، خصوصا في ظل الانفلات الأمني، والشحن الطائفي، والتشاحن السياسي، وغياب رؤية واضحة لما يمكن أن يكون عليه المشهد بعد الانتخابات الأولى التي تدور الآن شكوك جدية حول إمكانية أو جدوى إجرائها في ظل الأجواء الراهنة.

المشكلة أن تأجيل الانتخابات قد يغذي شكوك البعض الذي يرى أن المجلس العسكري يريد إطالة أمد إمساكه بخيوط القرار السياسي، وربما لهذا السبب سارع المجلس إلى إعلان تمسكه بإجراء الانتخابات في موعدها المقرر يوم الاثنين المقبل، كما أن هناك من يقول إن الإخوان المسلمين يصرون على عدم التأجيل لأنهم يعتقدون أنهم سيكونون الرابح الأكبر فيها الآن؛ لأنهم الأكثر استعدادا وتنظيما. هذا التلاقي في الموقف، وإن اختلفت أسبابه ودوافعه، إلا أنه غذى سوق الشائعات، ودفع البعض إلى القول بوجود صفقة بين المجلس العسكري والإخوان المسلمين، خصوصا في ظل إشارات الإخوان إلى النموذج التركي الذي يقوم على الاعتراف بدور للعسكر. ووجد أنصار نظرية المؤامرة مادة خصبة في الموقف الأميركي والأوروبي الأخير بأن الغرب لا يمانع في التعامل مع الحركات الإسلامية التي قد تأتي إلى السلطة في أعقاب الربيع العربي، على الرغم من أن هذا الموقف ربط هذا التعامل بنتائج انتخابات نزيهة، وبضرورة التزام هذه الحركات بمبدأ التداول السلمي الديمقراطي للسلطة.

هذا الحديث عن صفقات لا يعدو كونه انعكاسا لإحباط الناس من المجلس العسكري الذي يرون أنه لم يحسم الكثير من الأمور في الفترة الانتقالية، ومن الإخوان المسلمين الذين يتخوف كثيرون من أنهم يخفون أكثر مما يظهرون، خصوصا في موضوع مدنية الدولة، وآليات الديمقراطية، والمبادئ الدستورية. وربما لهذا السبب ردد متظاهرون في ميدان التحرير هتافات ضد الإخوان وضد المجلس العسكري.

السؤال الملح الآن هو: هل من المصلحة إجراء الانتخابات في مثل هذه الأجواء وقبل التوافق على آليات الفترة الانتقالية بجداولها الزمنية الواضحة، وعلى المبادئ الأساسية للدستور الجديد؟

هناك من يريد - بلا شك - إجراء الانتخابات في أسرع وقت ممكن، باعتبار أنها السبيل الوحيد لتقصير الفترة الانتقالية. المشكلة أن عدم الاتفاق الآن على جداول زمنية وعلى المبادئ الأساسية الحاكمة للدستور سيبقي الأمور على صفيح ساخن، وسيهدد بتجدد المشاكل والاشتباكات بعد أسابيع أو أشهر، وبتعطيل الانتقال الديمقراطي مع بقاء مزيج الفوضى والإحباط والمخاوف، الذي يشكل أكبر خطر على الثورة، وعلى مصر في الفترة المقبلة.

ينسب للمهاتما غاندي قوله: «إنه في اللحظة التي تثار فيها شكوك حول أهداف ودوافع المرء، فإن أي شيء يفعله يصبح موضع تساؤل». هذه الكلمات القليلة ربما تلخص جوانب كثيرة من الأزمة التي تواجهها مصر اليوم؛ فالثقة تبدو غائبة تماما، والشكوك والمخاوف هي التي تطغى على الساحة، وهي التي تجعل كل خطوة من المجلس العسكري أو من الإخوان موضع تساؤل وشك. في ظل هذه الأجواء فإن ما تحتاجه مصر ليس الهرولة غير المدروسة نحو انتخابات محفوفة بالمخاطر، بل تلبية الدعوة إلى حوار وطني عاجل تشارك فيه كل الأطراف بغية التوافق على مبادئ واضحة للدستور وللتحول الديمقراطي، والاتفاق على خريطة واضحة للطريق حتى لا تسقط مصر في هاوية المجهول.