مثلث الثورة المصرية.. من السماء إلى الأرض!

TT

يكاد مثلث الأزمة في مصر ينحصر في الجيش والأمن في جهة وشباب ثورة يناير بكل تنويعاتهم الصغيرة كجهة مقابلة وقاعدة الأضلاع في الأحزاب السياسية المترهلة بما فيها الإخوان الأكثر حضورا ونشاطا وقدرة على تحريك الشارع بشكل جماهيري ولكن غير نوعي من خلال استراتيجية الجماعة الشهيرة المعتمدة على الكمّ لا الكيف وعلى التحالف مع الجميع ضد الجميع.

عموم الشعب المصري لا سيما الطبقة المسحوقة بالفقر والبطالة والسكن العشوائي بعيد كل البعد عن الدخول في صراع أضلاع مثلث الثورة لأنه يفكر في الأرض يضع قدميه عليها ويفكر في طريقة حياته بها دون شعارات عريضة أو حتى تلكؤ في التغيير السياسي الديمقراطي بسبب مشاكسات هي أقرب إلى الترف السياسي الذي يمكن أن تمارسه في بلجيكا أو السويد دون عناء لأنه يقوم على قاعدة صلبة من التعددية واحترام حقوق الإنسان وسلمية التداول للسلطة.

الجيش والأحزاب السياسية وتحديدا الإخوان والشباب ما زالوا بعد الثورة معلقين في السماء فهم لم ينزلوا إلى الأرض بعد، حيث الشعارات والرؤى لا تزال بعيدة تماما عن حلول جذرية يمكن أن تغير من الواقع، فالجيش يحلم أن يكون القوة المتعالية التي لا تمسها سهام النقد في طريقة أشبه بالتأليه السياسي معتمدا على رصيد كبير من عدم القمع تجاه شباب الثورة ووقوفه بصلف أمام النظام السابق وتقديمه للمحاكمة وهي ممارسات كان يمكن لها أن تصيره جيشا يقترب من النموذج التركي كصمام أمان لولا أنه أخفق في قراءة الواقع بشكل دقيق فبين تركيزه على جماهيرية الإخوان وهي «كمّية» لم يلتفت إلى أن شباب الثورة على ضعفهم وعدم تنسيقهم وطيشهم السياسي إلا أنهم أيضا يحتلون الفضاء الإلكتروني برمّته وبالتالي فإن قوتهم الحقيقية على الأرض مهما بلغت من الضعف والهشاشة إلى درجة أن يظن الجيش أنهم «شوية عيال» كما يتم التعبير دائما لا يمكن لها أن تقارن بحضورهم في الإعلام الجديد والإنترنت (السماء الرقمية) والتي قد لا يكون لها تأثير في الشارع المصري لكنها أداة ضغط قوية في الخارج الذي يراقب مصر بقلق كبير بحكم الإرث التاريخي لمكانة مصر ودورها في العالم العربي والمنطقة، هذا «الخارج» بما يمثله من دول غربية ومنظمات دولية وجماعات ضغط حقوقية لا يكاد يسمع إلا ما يصله من أصوات الشباب عبر الإعلام الجديد وسطوته.

الإخوان من جهة ثالثة ما زالوا في السماء أيضا ببقائهم في ثنائية الداعية والسياسي التي تلبّست حسن البنا منذ البدايات وفارق الدنيا وظلت ملتبسة من بعده، صحيح أنها ثنائية جدلية يمكن تتبعها في منعطفات تاريخية إلا أن ترسيمة الدولة الأموية كانت كفيلة بأن تعيد صياغة الثنائية بعيدا عن أي التباس حيث للفقيه سلطته الاجتماعية وللسلطان سلطته السياسية في تحالف يقوى ويضمحل بسبب ظروف أخرى إلا أن أزمة الإخوان الحقيقية أنهم فقدوا الدورين معا فهم لا يشكلون ثقلا فقهيا الآن حيث إن الجماعات السلفية ما زالت هي التي تسيطر على الخطاب الثقافي العام للإسلاميين وهم يتحالفون مع الإخوان سياسيا بشكل مؤقت، لعلمهم أن هذا التحالف ضمان لرفع شعار «تطبيق الشريعة» في حين من السهولة أن ينحازوا مرة أخرى إلى الجيش متى ما استطاع كسب ثقتهم لشق صفوف الجماعة.

وكما تراجع الإخوان عن استحقاق عمامة الفقيه فإن طربوش السياسي ما زال ضيقا على العقل الإخواني الذي لم يفلح حتى الآن - رغم كل ما قيل ويقال ورغم الانشقاقات الداخلية في صفوف الجماعة والتحولات النوعية التي طالت الخطاب – في تحويل كل ذلك إلى برنامج سياسي، بل خلق الإخوان لأنفسهم مبررا كلما طالبهم خصومهم أو حتى المتعاطفون معهم ببرنامج أرضي تفصيلي وليس شعارات متعالية، ليكون الرد بأن سبب الإخفاق في إيجاد صيغة إنقاذ سياسية - ولو افتراضية تحظى بثقة الشارع - هو أننا بحاجة إلى فرصة التطبيق على الأرض ولا يمكن أن تحاكموا التجربة قبل اختبارها.

مشكلة الإخوان هي فكرية بالأساس تتصل بمقولات وتصورات قام عليها فكر الجماعة منذ التأسيس بحيث يمكن القول إنها لم تستطع أن تتجاوز فكر حسن البنا أو تطوره بل على العكس تماما حيث تعيش قواعد الجماعة وهم وقود الميدان حالة ارتداد حادّة نحو التشدد يمكن الاستدلال عليها بمواقف عديدة تعطي مؤشرا على ذلك لعل من أطرفها الاستبدال بصقر العلم المصري لفظ الشهادة كتأكيد على ما يجب أن تكون عليه هوية الدولة القادمة حتى بات الباعة المتجولون حريصين على استثمار هذه الموضات الإخوانية في مليونياتهم كل جمعة من خلال إغراق ساحة التحرير بمنتجات من هذا النوع في حين أن قيادات الجماعة مشغولة صحافيا وإعلاميا بمناكفة خصومهم السياسيين بدعوى أن ثمة مؤامرة مرة من الغرب وأخرى من شباب الثورة وثالثة من الأحزاب السياسية لعرقلة مشروع الإخوان بينما هي مشكلة فكرية في الأساس بحيث لا يستطيع الإخوان مجابهة مرشح إسلامي كحازم صلاح أبو إسماعيل نظريا لأنه أمين لفكرته البسيطة وربما الساذجة سياسيا من ارتباك الإخوان السياسي المدفوع بفوضى فكرية عارمة قد لا ينفع معها تفكير الجماعة الجاد بعدم تولي مناصب قيادية والتركيز على كسب ثقة الشارع من خلال الوزارات الخدماتية وحتى تأسيس ناد لكرة القدم.

الأزمة المصرية معقّدة إلى درجة أن من يزعم امتلاك الشارع سواء من الجيش أو الإخوان والتيارات السياسية الأخرى أو حتى الشباب فهو واهم، فما يحدث هو فقط تفريغ للشحن السياسي عبر موجات من الفوضى المنظمة في شكل مظاهرات قد تتطور لاحقا إلى فوضى أمنية أو حمّام دم إذا استخدم الجيش قوته ولو عبر قوات الأمن التابعة للداخلية.

المطلوب هو النزول إلى الأرض بواقعية شديدة ليس أقل من مرحلة انتقالية لسنتين يتم فيها إعادة بناء البيت المصري السياسي وإيجاد صيغة سياسية توافقية مرضية للجميع، فمصر احتاجت إلى 25 يناير لتسقط النظام لكن ميدان التحرير وحده لن يسعفها لبناء دولة مستقرة وآمنة وقوية.

[email protected]