المواجهة ليست حلا

TT

آخر سيرة صدرت عن حياة جورج كنان، أشهر دبلوماسي أميركي، استغرق وضعها ثلاثين عاما. رجل عاش عاما بعد المائة عام، أستاذا في برنستون، سفيرا لجون كنيدي في يوغوسلافيا، سفيرا عند ستالين، ومؤلفا لأبدع الكتب والأبحاث، وخصوصا أطروحته عن الاتحاد السوفياتي التي وقعها بحرف (إكس)، تجهيلا للمنشئ، لكن أسلوب كنان لم يخف على أحد. سر كنان الأهم، أنه يوم كان العالم خارجا من حرب عالمية تدمر أوروبا والمحيط الهادي وتترك 26 مليون قتيل في روسيا، وفقط نصف مليون في الولايات المتحدة القابعة خلف الأطلسي، تقدم هو باقتراح واحد: الاحتواء.

في الآونة الأخيرة صار هما حقيقيا علي أن أفتح التلفزيون عندما أفيق. ولست أدعي أنني عربي أكثر من أي مواطن أو أنني أتميز بمشاعر مختلفة عن أي مخلوق، لكن أحداث المنطقة بكل آلامها، وخلو آمالها، أصبحت معاناة يومية شخصية. وللمرة الأولى منذ أشهر شاهدت التلفزيون وشعرت بالأمل. سمعت خطاب العاهل البحريني الملك حمد بن عيسى، مسرورا بقاعدته الأولى والاهم: الاحتواء والتسامح والإقرار بالأخطاء وقبول استخلاصات لجنة التحقيق والوعد بتعديل القوانين القائمة. في الصورة كان حمد بن عيسى جالسا خلف منصة. في الصورة الحقيقية، كان جالسا بين الناس، يقول لهم، تعالوا نحمي البحرين من إفراط المسؤول وتجاوزات المعارض. الأوطان لا تبنى بالمواجهة. والعدالة لا تمنع العفو. وإذا كان الاحتواء قاعدة الغرباء، فكيف الأهل؟

لماذا المزيد من الساحات ولماذا المزيد من المواجهات ولماذا لا يكون المعارض والمسؤول جنبا إلى جنب، بدل أن يكونا في مواجهة بعضهما البعض؟ حتى عن إيران قال، بدبلوماسية فائقة، إنه «ليس هناك ما يثبت تدخلها». فليكن الاحتواء عاما وليس داخليا فقط.

ما البديل عن هذا الخطاب الناضح بالتواضع والسياسة العملية والترفع عن مخاصمة الناس؟ ترك لنا جورج كنان درسا في العلوم السياسية فائق العمق والبساطة: هناك حلان، الاحتواء أو المواجهة. المكابرة أو الإقرار. مصارحة النفس أو خداعها. ادعاء المعصومية في دنيا البشر أو المعرفة الكبرى بأن البشر يخطئون التقدير ويخطئون التصرف ويخطئون الأحكام، والحل في كل ذلك النزول إلى الناس.

كان أول قرار سياسي اتخذه حمد بن عيسى إفراغ السجون وإلغاء المنافي. وخطاب الأربعاء ليس أقل أهمية ولا معنى. ويتمنى المرء ألا تكون ردة فعل المعارضة دون هذا المستوى من الرفعة الوطنية. فالمعارضة هي أيضا أمام خيارين: الحوار أو إغلاق الطرق وإحراق الساحات. والعالم لم يعتد على البحرين حرائق وصخبا وتحريضا، بل كانت صورتها الحقيقية دائما، تلك التي رسمها حمد بن عيسى في خطاب الأربعاء، بقعة صغيرة وبلدا عامرا.