بارقة أمل في الظلام

TT

عادت الأعداد الغفيرة إلى ميدان التحرير وغيره من مواقع الثورة بمصر، وارتفعت الأصوات الغاضبة تطلب إتماما لمطالب الثورة بتحقيق الحكم المدني الكامل، والبدء في إرساء قواعد الدولة المدنية العصرية ومؤسساتها الداعمة لها، وعودة الجيش بأفراده ورموزه إلى موقعه الذي أسس من أجله وهو خدمة البلاد وحدودها والذود والدفاع عنها.

المصريون لديهم إحساس بالخداع بأنهم ناموا على ثورة، واستيقظوا على انقلاب عسكري، وبالتالي يريدون اليوم «حسم» الأمر بشكل قطعي.

حسني مبارك يحاكم اليوم على حساب ستين عاما من حكم العسكر، وليس على الأعوام الثلاثين التي هي حقبته الفعلية، وبالتالي آثار الاستبداد الناصري المحسوبة على انقلاب العسكر في عام 1952 هي أساس سلطة العسكر والداخلية والأمن المركزي والفساد الاقتصادي، ولن تستقيم الأمور في مصر إلا بالطلاق البائن مع هذه الحقبة الحزينة من التاريخ السياسي في مصر.

حالة من الخوف والقلق والشك تنتاب الكثيرين في مصر على ثورتهم وعلى بلادهم، خصوصا وهم يرون عشرات القتلى ومئات الجرحى يتساقطون تباعا، وغموض الحاضر وضبابية المستقبل.

مصر البلد العربي الكبير والمؤثر في محيطه يخاف عليه الكثيرون، ويراقب تطورات الوضع فيه العالم، وهناك قلق من انفلات الأمور وسقوطها إلى هاوية الفوضى.. ومع بشاعة المشهد في مصر حاليا وفظاعة ودموية وجنون المشهد في سوريا الذي يظهر نظاما فقد شرعيته وأخلاقه وحكمته وراح رئيسه كما كان والده يقوم بقتل شعبه بلا رحمة ولا هوادة وبشكل لا يمكن قبوله ولا تحمله والسكوت عنه يعتبر جريمة كبرى، فإن كلا المشهدين يهدد الربيع العربي الذي كان بمثابة الحلم للملايين من العرب، وهي الشعوب التي تحملت الذل والمهانة والفساد والظلم لعقود طويلة، لكن مع هذين المشهدين المؤلمين هناك بوارق أمل تسطع وتشرق كشمس الصباح الجميلة. فتطورات الأحداث السياسية العظيمة في تونس تبشر بكل خير، وتجعل من النموذج التونسي مثالا ومقياسا ومعيارا لما يجب أن تكون عليه المراحل الانتقالية لما بعد الثورة في الربيع العربي.

فتونس شهدت انتخابات مثالية بنسبة مشاركة قياسية، وشكلت برلمانا متنوعا يعكس رغبة الشارع الثري فكريا فيها، وها هي المناصب الثلاثة الرئيسية، رئاسة الوزراء ورئاسة الجمهورية ورئاسة البرلمان، يتقاسمها الساسة بحسب تركيبة البرلمان، وتعكس التيارات السياسية الرئيسية في البلاد بشكل مدهش وحضاري، ويدعمها حراك أمني متزن يحافظ على الأمن وعلى كرامة المواطن، وكذلك وجود إعلام شفاف ومهني.. والمشهد نفسه آخذ في التكوين في الجارة ليبيا التي شكلت حكومة جديدة بعد تحرير كل الأراضي الليبية والتخلص من القذافي وزمرته، وكانت الحكومة الليبية الجديدة واجهة متوازنة لكل الحضور الليبي بجميع توجهاته، واختيرت بعناية ودقة، ونالت رضا الجميع بشكل أيضا مدهش وجميل.

واليوم يشهد اليمن انتقال حكم علي عبد الله صالح منه إلى فترة انتقالية يودع اليمن فيها عهدا من الفساد والاضطراب والقلق والبهلوانية السياسية بلا عودة لها.

كل هذه المشاهد تبشر بأمل مهم طال انتظاره، مما يعني أن مصر وطبعا سوريا يجب أن تكونا على الطريق نفسه والمعيار نفسه، فهما لن ترضيا بالأقل، وذلك بعد أن وجدت الأمثلة المنشودة وبشكل عملي وحقيقي وواقعي بعيدا عن التنظير والطموح فقط. العرب قادرون على صنع واقع أفضل وأجمل، فهم ليسوا بأقل من غيرهم من الأفارقة والآسيويين والأوروبيين والأميركان بمختلف خلفياتهم وتركيباتهم، هؤلاء أيضا كان يقال لهم إنهم غير مستعدين للديمقراطية وغير قادرين عليها وليسوا أهلا لها، وأثبتوا للعالم العكس تماما.

المشهد المصري في طريقه للتعديل، والمجلس العسكري يعلم أن ميدان التحرير اليوم في عام 2011 هو غير القاهرة في عام 1952، ولا بد أن يستمع جيدا لمطلب الشباب والشعب الذين أوضحوا طلباتهم وأهدافهم ولن يعودوا حتى تتحقق بالكامل.

سنوات الفساد والاستبداد مل منها العرب، وباتوا تواقين للحرية والعدل والمحاسبة والكرامة، تلك الكلمات الجميلة التي بقيت أسيرة الكتب والقصائد وقصص قبل النوم فقط. القصة النهائية لمشاهد الربيع العربي الحالي تجري صياغة فصولها الأخيرة بالعرق والدم والصوت والصورة لتسجل في دواوين التاريخ، فهكذا تصنع الكرامة ويصاغ المستقبل. سينحني العالم احتراما للشباب العربي الذي فاجأ العالم وفاجأ العرب عندما كتب الجميع ذات يوم شهادة وفاته.

[email protected]