رسالة «من» البريد

TT

كان باب «البريد» في «التايمز» على مدى قرنين تقريبا، أهم أبواب الجريدة وأكثرها قراءة. وربما أكثرها حضارية. فهو منبر الرد على الكتاب. وعلى الافتتاحية. وهو فرصة القراء، من داوننغ ستريت إلى أي شارع في أي مدينة، للنفي أو التوضيح أو التعليق. ومع اختراع الإنترنت وصدور الطبعات الإلكترونية للصحف تضاعف أضعافا كثيرة مجال الردود ومشاركة القراء في صحف العالم.

كتبت قارئة عزيزة رسالة ذهبية من جملة واحدة: «عندما يصبح في ثقافتنا احترام الرأي الآخر، نكون قد بلغنا جانب الحضارة». «البريد» بستان، فيه كل الآراء وكل المواقف وكل المشاعر وسائر أنواع التأييد والنقد، وافتقد قارئا من السنغال، كان آخر ما كتبه لصندوقي رسالة تهكم قاسية. لكنه كان يبدو لي دائما مشروع كاتب بالغ الثقافة وعلى إلمام واسع بآداب العالم.

ويلاحظ الكاتب أن بعض المواضيع تثير اهتمام عدد كبير من المكاتبين، وبعض المسائل أو البلدان لا تحظى بأي رسالة. ويكتب بعض آخر أملا بالنشر وليس رغبة في المشاركة. وهذا حقهم، لكن تهافتهم يفرغ هذا الحق.

أثارت المواضيع عن ليبيا مشاعر وعواطف، أكثريتها الساحقة تندد بالنظام الخليع. وأساء البعض فهم زاوية «أم سيف»، وأحبها البعض الآخر. وجاءت رسالة من سيدة في ليبيا تقاتلني لأنني لم أر فظائع القذافي وأبنائه وجلاديه. هذا تجاوز لحق الرد، لأنه يمثل جهلا فاقعا لأعمال الكاتب الذي له الشرف بأن يكون بين أوائل من اتخذوا الموقف الإنساني الإلزامي من نظام خالع ظالم ومتوحش.

لكن إلى السيدة من ليبيا، أحب أن أقول، إن الوقوف مع دولة القانون لا ينفصل. وأنا أحب وأتمنى للأنظمة الجديدة في العالم العربي أن تكون أفضل من أنظمة القتل والسجون والتعذيب وليس مثلها. ولم أكن أتحمل، حتى على سبيل التفكه، منظر معمر القذافي مزركشا بالألوان أو الأعلام أو الأوسمة، لكنني لم أتحمل أيضا منظره مسحولا. ولا منظر سيف القذافي مقطوع الأصابع التافهة المستكبرة التي رفعها في وجه شعبه.

إذا لم نكن ذاهبين إلى دولة القانون فإلى أين؟ إذا لم نكن سنلغي العسف وأقبية التعذيب وسرعة الثروات وإهانة الشعوب وخداع الذات والناس والمضي في التخلف، فماذا سوف نحقق إذن؟ أقامت الثورات محاكمات صورية على الأقل. وباسم القانون تحول بعضها إلى عصابات تصفية. وإذا لم يكن هدف انتفاضات العرب، بدء المسيرة نحو دولة القانون، فثمة خراب شديد وطويل في الانتظار. ويا سيدتي في طرابلس، لا يمكن لإنسان ذي قلب ومشاعر وكرامة بشرية أن يدافع عن المهرج الدموي الذي جثم على صدر ليبيا والعرب. انفعلي كما تشائين، لكن اقرئي بهدوء.