ولن تنفعكم الفروع.. بعد هدم الأصل «مصر الدولة»

TT

بعض أبناء المستعمرات البريطانية السابقة جهر فنادى بـ«عودة الاستعمار» إلى بلاده.. ثم جاءته امرأة (بذات العقلية) فدعت إلى تكوين حزب.. أهم بنود برنامجه السياسي عودة الاستعمار إلى بلادها. ووراء هذه النزوعات السياسية الغريبة ضيق شديد بالعبث السياسي والإداري والإنمائي الذي تمارسه السلطات الحاكمة في تلك البلدان. أي كأن هذه الدعوات مسوغة بمنطق «!!!»، وهو أن بلاد الداعين كانت أكثر أمنا واستقرارا، وأفضل تعليما، وأجود إدارة، وأعدل قضاء في عهد الاستعمار منها في عهد «الحكم الوطني».

فهل سنرى - في مصر مثلا - من ينادي بعودة «آل مبارك» إلى السلطة من جديد؟ الاحتمال غير مستبعد نظريا. ولكن كلتا الدعوتين ضرب من الجنون دفع إليه الإحباط المحطم أكثر مما دفع إليه العقل والمصلحة، ومن طبيعة الآراء التي تظهر في حالات الإحباط والقنوط: أن نسب العقلانية والحكمة فيها تتدنى إلى أدنى حد، ولأمر ما نُهي القاضي عن إصدار الأحكام في القضايا وهو في حالة غليان الغضب إلى درجة الإغلاق.

ثم إن الهروب إلى الدفاتر القديمة التالفة هو نزعة هوس. فالاستعمار إذ قدم تفاصيل حسنة لبعض البلدان في بعض المجالات، فإن هذه التفاصيل تمت في إطار الإذلال العام للشعوب، وإلغاء سيادة الأوطان، ومصادرة حق الاستقلال في القرار: الإداري والسياسي والاقتصادي والتشريعي.. ومثل تلك التفاصيل الحسنة في هذا الإطار المذل كمثل من يتلقى طعاما جيدا ولباسا فاخرا مقابل استعباده واستلاب حريته وكرامته.. وأما بالنسبة للحاكم المستبد، فإن استبداده ذاته ظلم بواح، وخيبة مؤكدة: «وخاب كل جبار عنيد».. يضم إلى ذلك أن البراكين الاجتماعية والنفسية والسياسية والاقتصادية التي انفجرت بعد رحيل الاستبداد إنما هي براكين تكونت من تراكمات الفساد والقهر والفشل عبر العقود التي حكم فيها الاستبداد. فشدة ضغط التراكمات ولّدت الانفجارات المتتابعة.

إن مصر اليوم تمر بظروف عصيبة جدا، بشهادة جميع الأطراف فيها؛ القضاة والمفكرين والعسكريين والساسة والشباب، وهي ظروف تجاوزت الشقاق السياسي إلى الضرب والقتل والجرح في الميادين العامة.. ولئن كان من النظرة الواقعية أن يقال: إن الثورات لا تستقر إلا بعد سنوات، وإن المشكلات الاجتماعية والسياسية لا تحل في شهور معدودة، فإن من المنهجية العقلانية أن يقال، كذلك: ليس من الواقعية في شيء أن يكون المدى الزمني الفاصل بين الثورة والاستقرار مدى لـ«هدم الدولة» ذاتها. فإنه إذا هدمت الدولة فلأي هدف يعمل الثوار والمنتفضون؟ وفي أي إطار سيطبق المتنافسون برامجهم السياسية والاجتماعية؛ هل سيطبقونها في خرابة؟.. إن الذين يهزمون الهدف وهم في الطريق إليه قوم لا يعقلون.. ومثل هؤلاء كمثل من قتل بقرته ثم جاءها بالعلف ليطعمها رجاء أن تدر عليه مزيدا من اللبن!! فأي لبن بعد موت البقرة؟! قبل 15 عاما كتبنا - في هذه الجريدة - بمناسبة عبث الذين اقترفوا مجازر ضد السياح في الأقصر (نقصد عبث أولئك الذين يزعمون إقامة دولة إسلامية بوسائل القتل وتحطيم مؤسسات الدولة)، قلنا يومها: «هل الهدف هو ضرب الدولة ومحاولة تفتيت بنيتها، وتعطيل تنميتها؟ لكن هذا الهدف هو هدف أعداء مصر. ومن هنا فإنه حرام أن يكون هدفا لأي مصري: لبلده عليه حقوق كثيرة، من أهمها الحفاظ على كيان البلد وحمايته من مخططات الأعداء.. نحن نعلم أن وجود (مصر عاجزة) باستمرار، هدف ثابت من أهداف الصهيونية، متلبس بأهداف قوى أخرى، ذات هوى صهيوني أيضا، ذلك أن وجود (مصر كسيحة) هو - في نظرهم - (الضمانة الوحيدة) لمستقبل الدولة الصهيونية وأطماعها.. ومصر العاجزة الكسيحة هي مصر المضروب أمنها، والمعطلة تنميتها، والمفتتة وحدتها، المجهول مصيرها ومستقبلها».

وبينما تعيش مصر هذا «الكرب الوطني» النازف دما ودمعا، هناك من يغرق في التفاصيل والإجراءات والوسائل.. هناك من يصر على إجراء الانتخابات التشريعية بعد غد الاثنين (!!!!)

حين يتعلق الأمر بكيان الدول، ومصائر الشعوب، فإن الكاتب لا يجوز له أن يدخر ذرة واحدة من «الصراحة الموجعة». وفي نطاق هذه الصراحة نسأل: لماذا الإصرار على «التصور الخرافي» للديمقراطية، تصور أنها «دواء لكل داء»؟.. هل حلت الديمقراطية، في مصر (أحزابا ومعارضات وبرلمانات) هل حلت مشكلات ما بعد الاستقلال في هذا البلد؟.. لا، قطعا، بدليل أن هذه الأحزاب والمعارضات - وحكوماتها المنتخبة - عجزت عن تقديم حلول صائبة ناجعة لمشكلات مصر الاجتماعية والسياسية والاقتصادية، بدليل أن هذا العجز قد استدعى أو أغرى الجيوش (في مصر وفي غير بلد عربي) بتسلم السلطة، ثم تحولت هذه الانقلابات إلى حكم استبدادي كتم أنفاس الناس وضيع مصالحهم، وأظلم مستقبلهم على مدى ستة عقود تقريبا.. ثم أعقب حقبة الاستبداد ما نراه اليوم مما سمي بـ«الربيع العربي»، حتى المصطلح صناعة غربية، صكه الغربيون وهم يصفون حراك تشيكوسلوفاكيا (بقيادة دوبشيك) ضد الهيمنة السوفياتية عام 1968، حيث وصف ذلك الحراك بـ«ربيع براغ».

نعم، على الرغم مما تعانيه مصر من كرب أليم، هناك من يصر على الغرق في التفاصيل، بمن في ذلك المجلس العسكري نفسه، ففي خطاب للتهدئة والتطمين جزم رئيس المجلس بأن الانتخابات ستجري في موعدها.. لماذا الحرص على «تقديس» ما ليس مقدسا؟ إنما جعل موعد الانتخابات من أجل مصر، ولم تجعل مصر من أجل موعد الانتخابات.. فالعقلاء يتساءلون: كيف تجري الانتخابات في مثل هذه الظروف المشحونة بالتوتر والإحباط والمشاحنات والانفلات الأمني والانقسام حول كل شيء تقريبا: الانقسام بين المجلس العسكري وغالب التيارات السياسية.. والانقسام بين التيارات السياسية نفسها.. والانقسام حول موعد إجراء الانتخابات.. إلخ.. إلخ. لقد فتح المجلس العسكري على نفسه بابا واسعا لاتهامه بأمور شتى، منها أن أصواتا شعبية قوية (ثورية) جهرت (على الهواء مباشرة) بأن أزمة مصر تكمن في أن مصير البلد قد حشر في جحر ثلاثي الزوايا: المجلس العسكري.. والإخوان المسلمون.. والتواطؤ بينهما بمباركة أميركية.. وبمناسبة أميركا، فإن مصادر رسمية قد عبرت عن قلقها العميق تجاه ما يجري في مصر اليوم، وطالبت تلك المصادر بالكف عن استعمال العنف ضد المتظاهرين.. وحقيقة الأمر أن أميركا ذاتها «متخبطة»، لا تملك رؤية شاملة ولا صائبة. وهذا ما أشارت إليه «نيويورك تايمز»؛ إذ قالت: «إن الولايات المتحدة تواجه مأزقا سياسيا صعبا تجاه ما يجري في مصر، ولا سيما في الأيام الأخيرة. والمأزق هو أنها لا تدري كيف تجمع بين تشجيع التغيير من جهة، والحفاظ على الاستقرار من جهة أخرى».

وبتوجيه السياق وجهة فلسفية نقول: لقد كثر الحديث عن «التغيير» في الأيام الأخيرة، وتقدم شعاره على كل شعار آخر تقريبا، كل ذلك دون تحديد لمفهوم التغيير، تعيين لمجاله، وترتيب لأولوياته.