أنظمة تسقط وحراك لا ينجح

TT

كثير من الأنظمة العربية سقطت بسبب ما سميناه على نطاق واسع (ربيع العرب) وقد يسقط غيرها في المستقبل قريبا أو بعد حين، ولكن هذه الثورات أو الحراك السياسي الواسع من الواضح حتى الآن أنها لم تنجح في إيجاد البديل المرجو من أغلب الناس، بمعنى أنها لم تأت بما يخالف سوءات السابقين والأمثلة كثيرة.

في مصر يسقط الضحايا كما سقطوا من قبل وتحت نفس الظروف. في السابق قدم المتسببون في قتل الناس إلى المحاكم، ولكن في الأحق لا أحد يتكلم عن محاكمات ولا حتى عن تعويضات، العوض في الثورة إن شاء الله! في ليبيا على الرغم من كل المعاناة التي لقيها الشعب الليبي من ديكتاتور مجنون قتل واستباح دون حدود الأنفس والممتلكات، يعيد الثوار تقريبا نفس المنهج في أعدائهم، فقد تحدثت تقارير موثوقة عن اغتيالات خارج القانون وانتهاكات لأبسط حقوق الإنسان، ولكنها تنتهك باسم الثورة هذه المرة، إلى درجة أن السلطة المركزية غير قادرة على وضع يدها على شخص مثل سيف الإسلام الذي عاث فسادا في السابق تحت حكم أبيه المتسلط، وهو الآن في يد (مجموعة) من الثوار بعيدا عن العاصمة وأعين الرقابة القانونية، تماما كما كان يفعل في أعداء ومعارضي حكم والده الطائش والمجنون. في اليمن على الرغم من تنازل رئيس الجمهورية فإن الأحزاب السياسية تكاد تختطف الحراك اليمني وتوصله إلى مكان ليس بعيدا عن ممارسات حكم علي صالح الشمولية، وتبقى الجماهير التي طالبت بالحرية والمساواة وإعلاء حقوق الإنسان في العراء. في تونس رغم كل الاحتفال بما حدث انقسم الخارجون من صناديق الانتخاب اختلافا على تقسيم الكعكة، بين من يريدها ليبرالية ومن يريدها إسلامية، وفي النهاية سوف يكون الخاسر الأكبر في كل ذلك الشعب التونسي الذي أراد الحرية بمعناها الحديث فوجد أن حريته مقيدة بقيود جديدة وثقيلة.

يبدو أن الاستثناء العربي سوف يظل استثناء مبنيا على قاعدة الاستبداد، وهو ما شاهدناه أمام أبواب الجامعة العربية منذ أسابيع حين دب خلاف وصل إلى التشابك بالأيدي بين مؤيدي المجلس السوري المؤقت، وقوى المعارضة في الداخل، كل يريد أن يقول إنه (الممثل الوحيد) للشعب السوري. أبسط أشكال الديمقراطية اعترافها الكامل غير المنقوص بالتعددية، وهو يعني أن هناك متسعا لكل القوى في المجتمع أن تعبر بحرية ودون قيود عن مكنونات ما ترى في طريقة تسيير المجتمع. هي حرية الإقناع لا حرية الاقتلاع التي مارستها مؤسسات الدولة القمعية بنجاح كبير في العقود العربية السابقة. سيظل الوضع العربي استثناء حتى يثبت العكس تحت حكم ديكتاتوري أو تحت شعارات ثورية، بمعنى أن (القمع) هو سيد الموقف، سواء كان هذا القمع بالقوة المادية أم بالقوة المعنوية، أما الاعتراف باختلاف وجهات النظر في الشأن السياسي وأن هناك مكانا للتوافق في الحلول الوسطى، فإن ذلك ما زال بعيدا عن الثقافة السياسية العربية، بأي ثوب تدثرت وتحت أي شعار رفعت.

في تقديري كان المرجو في ظن كثيرين أن ينتج من كل الحراك العربي في (ربيع العرب) مجتمع سياسي عقلاني تقوده مبادئ لها علاقة بالتنمية والتسامح وقبول الآخر وسيادة القانون والمساواة بين المواطنين وتكافؤ الفرص والشفافية في الإدارة العامة، أي مجتمع حديث يتساوى مع المجتمعات الحديثة في هذا العالم الذي نعيش فيه والذي تتكاثر فيه المجتمعات الطبيعية التي يأمن المواطن فيها على حقوقه العامة والإنسانية ويصدح برأيه دون وجل.

تلك الأمنية واضح أنها بعيدة عن التحقق، ما زال التفكير السياسي العربي يقسم الناس إلى فسطاطين (فريق في الجنة وفريق في السعير) لقد تم (عزل) وبقوة القانون وبشكل جماعي كل من تعامل مع النظام السابق، حدث هذا في مصر وأيضا في تونس، وبالتأكيد سيحدث في كل من ليبيا وربما سوريا.

هذا العزل غير مبرر ويشابه عزل الأنظمة السابقة لأعدائها، أي خارج المبدأ القانوني الذي يقول إن (الجريمة شخصية) وليست جماعية، يقابله طبعا تطهر كل من قام بالثورة أو الحراك من كل (الجرائم) التي لا شك أنها ارتكبت في حق المواطنين العزل.

عدم نجاح الحراك العربي والسير في الاتجاه الصحيح هو العلاقة المرضية الطويلة بين السلطة والناس، والتي يقوم البعض بإعادة إنتاجها اليوم من جديد. فلا نجد مثلا في ميدان التحرير المصري أية قيادة ولا نجد أية مطالب سياسية، غير الشعارات، وفي الوقت نفسه يسقط الضحايا من البشر. ولا نجد في الثورة الليبية تحديدا لمفاهيم دقيقة للمستقبل الليبي، عدا الشعارات العامة. أما الحراك اليمني فإن توقعي أن الصراع على كعكة الحكم سوف يستفحل في الأيام والأسابيع القادمة، بسبب وجود فراغ ضخم في ما تريد أن تحققه الشرائح اليمنية التي شاركت في الحراك الشعبي. هل أبدو متشائما؟ ربما، ولكني على قناعة أن الحكم اليوم في كل العالم لم يعد تلقائيا أو عشوائيا، أصبح علما وفنا في آن. مع الأسف نفتقد الكثير منه من حولنا.

آخر الكلام:

الفكرة الجيدة عندما تدخل عقلا متخلفا.. تتخلف..