وجه للعدو الجديد

TT

الحراك الاحتجاجي المتواصل والمستمر والمتزايد في الغرب الصناعي، المسمى بحركة «احتلوا وول ستريت»، يزداد قوة ويزداد عمق مضمونه ليتحول من حماس شباب ساخط ومجتمع غاضب إلى مطالب ومساءلات حقوقية جادة للغاية، وذلك بعد أن دخل معها مجموعة غير بسيطة من المحامين الحقوقيين المخضرمين ومنظمات حقوقية فعالة ونافذة. وكان من المفروض أن يكون لهذه الحركة وجه واسم وعنوان «للعدو» الذي تقصده، وكان من الطبيعي أن يكون هذا العدو هو المصارف البنكية نظرا لقيام هذه المؤسسات بالكثير من العمليات المريبة، مما مكنها من زيادة أرباحها بشكل «غير طبيعي»، لتأمين حوافز خيالية للتنفيذيين العاملين فيها.

واليوم تعتبر هذه المصارف إحدى أهم أدوات الاستبداد الاقتصادي وتكريس فكرة الهندسة الاجتماعية، وإعادة توزيع الثروات بحسب الرغبات والأجندات لمنفعة المحاسيب والأنصار والدوائر الخاصة جدا المقربة من أصحاب صناعة القرار المالي والاقتصادي والسياسي.

ومع توسع أضرار الأزمة المالية في أميركا ثم انتشارها بشكل أوسع في القارة الأوروبية كان من الطبيعي أن يُرى تطاير الرؤوس التنفيذية في الكثير من المصارف، وكذلك بعض القيادات في البنوك المركزية، التي أهملت دورها في مراقبة الانفلات الإداري في السياسة المالية والإقراض غير المسؤول لهذه البنوك، واليوم تعتزم حركة «احتلوا وول ستريت» القيام بحراك قانوني مهم جدا في الولايات المتحدة الأميركية، وذلك برفع قضية على موظفين تنفيذيين صغار في إحدى شركات التقنية التي تم التعاقد معها من قبل مصارف مختلفة للكشف المبكر عن استحقاقاتهم وتجميد أرصدتهم إلكترونيا لإجبارهم على السداد المتعلق بأقساط ديونهم، أو إخلاء منازلهم بشكل ابتزازي، وتعتقد حركة «احتلوا وول ستريت» أن هذا الأسلوب هو شبيه بما تم اتباعه مع عصابات المافيا الإجرامية حين تمت ملاحقة العناصر الصغيرة القريبة من الدوائر الإجرامية، وبذلك يتم جر الحلقة تلو الأخرى إلى دائرة القضاء والعدالة بشكل فوري وتلقائي، وأثبتت هذه الطريقة فعاليتها من قبل.

والربيع العربي لا يزال يوجه مهامه إلى الكوادر السياسية في أنظمة الحكم المخلوعة، ولكن هناك بوادر مهمة في مصر وتونس وليبيا بالكشف عن عناصر الفساد المتغلغلة في الجسد الاقتصادي والمالي وفضح الكيفية التي كان يتم بها تمكين البنوك من أن تكون أدوات قمع واستبداد اجتماعي بامتياز، فتضع بانتقائية أفرادا ومجموعات في قوائم سوداء، وتبرز آخرين بشكل مدروس موجه، وكأنها تريد أن تعز من تشاء وتذل من تشاء بحسب الصلاحيات الممنوحة لها، حتى تحولت البنوك بالتدريج إلى مراتع للفساد والمنفعة للخاصة، فتزداد أرباحها بشكل مقزز بينما تظل مساهمتها الاقتصادية محدودة للغاية، وإقراضها الموجه للشرائح العريضة من المؤسسات الصغيرة والمتوسطة لا يلمس أبدا، متوهمة بأن «إقراض» بطاقات الائتمان وإصدار بطاقات الصرافة الآلية هي دعم يمكن اعتباره حقيقيا للاقتصاد وبصورة عامة، وطبعا ما هذا إلا هراء عظيم.

كنت في لقاء جمعني مع مصرفي آسيوي عريق، وكان يقول فيه إن انهيار البنية التحتية للبنوك العربية مقبل لا محالة، في ظل فوضى القرارات وعشوائية الاختيارات وانتشار المحسوبية في التعيينات وانعدام المحاسبة والمسؤولية. وإذا كان بقاء المصارف العربية دون مشكلات حتى هذه اللحظة فهو بسبب الحظ، وإذا كان الحظ قائما، فإن ذلك مسألة وقت! كان كلامه قاسيا ولكنه ليس بعيدا عن الواقع أبدا، والحراك العالمي اليوم المتزايد ضد هيمنة المصارف الظالمة على الشأن الاقتصادي ونقدها على أنها مجرد وسيلة لمنفعة القلة سيكون وسيلة ضغط حقيقية لتغيير هذا الوضع ليصبح أكثر آدمية وأكثر أخلاقية وأكثر مسؤولية في ظل عالم جديد متغير يرفض الظلم والاستبداد والفساد. البنوك تبوأت مكانة العدو في حرب المجتمعات على المظالم الاقتصادية فلتستعد للمواجهة.