حوار الموت مع الحريري

TT

في شهر ديسمبر (كانون الأول) من عام 2004، وفي مدينة جدة، دعيت لتناول طعام العشاء في منزل الأمير سعود الفيصل وزير خارجية المملكة العربية السعودية.

كان العشاء مختصرا يتقدمه صاحب الدعوة الكريمة، وبحضور السيد أحمد عبد الوهاب، رفيق رحلة عمر طويلة مع آل الفيصل، والأستاذ حسان ياسين الذي أعتبره واحدا من أنشط المتابعين للسياسة الأميركية. وأذكر أن الحوار بدأ ولعدة دقائق حول السياسة الأميركية عقب أحداث سبتمبر (أيلول) 2001، ومحاولة لفهم توجهات الرئيس الأميركي - حينئذ - جورج دبليو بوش.

وما هي إلا دقائق، حتى دخل علينا - بشكل مفاجئ - ودون سابق ترتيب، الرئيس الشهيد رفيق الحريري، رحمه الله. وانفجر الرجل أمام الجميع شاكيا سوء الأوضاع في لبنان وحجم التسلط والمضايقات التي تسببها دمشق له ولبلاده.

وإذا كانت هناك جائزة دولية للصبر والمثابرة فإنني أرشح الأمير سعود الفيصل لنيلها، فالرجل منذ أن تخرج في جامعة برنستون الأميركية عام 1964 وهو في العمل العام.

وقد ساعدته خبرته الدبلوماسية منذ أن تولى حقيبة وزارة الخارجية السعودية عام 1975 على إدارة عشرات الأزمات الإقليمية بدقة وصبر وتؤدة، ولم يكن الرجل غريبا عن الملف اللبناني، فهو يعرفه كما يعرفه أهل السياسة اللبنانية.

لذلك لم يكن غريبا على الأمير سعود أن يقوم بتهدئة روع أبو بهاء ونصحه بالصبر الجميل، مسترشدا بمقولة: «بين ليلة وضحاها يخلق الله ما لا تعلمون».

وعند نهاية العشاء، الذي التزمت فيه الصمت الكامل، بادرني أبو بهاء قائلا «لماذا لا تقابلني غدا في العاشرة صباحا في منزلي بجدة. سأرسل سيارة كي تقلك».

وفي العاشرة كنت في الموعد، قابلني أبو بهاء مرتديا جلبابا أبيض وقد بدا عليه أنه لم ينم بشكل جيد. استمر أبو بهاء يتكلم من العاشرة حتى الساعة الثانية دون توقف ودون أن يقاطعنا أحد. كان ذلك أطول لقاء لي مع أبو بهاء وكان أخطره على الإطلاق.

وحيث إن الحوار كان شخصيا، فإنني أمتنع عن ترديد ما قاله الرجل، إلا أنني أستأذن الرجل اليوم لأكرر عبارة واحدة بالغة الأهمية.

حينما أعربت له عن مخاوفي، وعن المعلومات الخاصة التي توفرت لي وللكثير من زملائي بأن هناك خطرا على حياته، قال لي الرجل: «كلامك دقيق. لقد تلقيت معلومات من باريس والرياض والقاهرة وواشنطن تحذرني من البقاء في بيروت».

هنا سألته: إذن لماذا لا تغادرها على الفور؟ ابقَ هنا في الرياض أو سافر إلى السيدة نازك في باريس أو قم برحلة سياحية حول العالم! البقاء في بيروت انتحار!

رد: لا لن يجرؤ أحد على قتلي، يا عماد من سيدفنني في القبر سوف يُدفن بجانبي عاجلا أو آجلا. وبقية القصة بالطبع معروفة.

أطرح هذه القصة على الذين يلومون الشيخ سعد الحريري على وجوده خارج لبنان مؤخرا لعدة أشهر. إن ما حدث مع الحريري الأب، تكرر مع الحريري الابن.

جاء التهديد بالقتل لسعد الحريري، ولكن بعد ما حدث للوالد لم يكن ممكنا للابن أن يأخذ التهديد باستخفاف. لم يكن سعد الحريري عاشقا للسياسة أو طالبا للسلطة أو الشهرة، بل إن معركته السياسية بعد وفاة والده كلفته من الوقت والمال والجهد والتجريح والألم ما لا يطيقه بشر.

لكن سعد الحريري لا يستطيع أن يتنازل عن معرفة قتلة والده بوصفه أحد أولياء الدم، وبصفته ابن بيت سياسي أشعل ثورة الأرز.

كان رفيق الحريري غير مصدق أن تكون الرصاصة أو السيارة المتفجرة هي الحل الذي سيلجأ إليه خصومه. لذلك أذكر أنني قلت له يوم ذلك اللقاء: «علمنا التاريخ أنه يجب أن لا نفكر في ردود فعل خصومنا بعقولنا نحن ولكن بعقولهم هم».