مصر: ثلاث قوى وثلاثة اتجاهات وشبح الفوضى

TT

ثقل الوطن كان في ميادين التحرير في مصر كلها، ولكن وجود الإخوان في الأزهر، ومؤيدي المجلس العسكري في العباسة يعني أن هناك ثلاث قوى تتجاذب الوطن في ثلاثة اتجاهات مختلفة، وفي أسوأ سيناريو يعني ذلك بداية تمزق أوصال الوطن وتهتك أربطته. فهل هناك وصفة قبل أن يقع المصريون في المحظور لشد الوطن بعيدا عن الانزلاق في الحفرة؟

تشكيل حكومة إنقاذ وطني وتنحي العسكر عن الحكم كانت رسالة التحرير وموقفه، أما الإخوان في الأزهر فتسربلوا بقضية فلسطين والانتخابات أولا، أما أهل العباسية فكانوا مع استمرار العسكر في السلطة. تسبح هذه المواقف الثلاثة في جو سلمي حتى الآن ولكن تحت هذا السلم ترقب للحظات عنف، قد تنطلق كما غول إذا ما أصر المجلس العسكري على إجراء الانتخابات في موعدها، في الوقت الذي تعلن فيه وزارة الداخلية صراحة أنها لا تستطيع تأمين الانتخابات، كما أن الجيش والداخلية معا فشلا في احتواء أزمتي ماسبيرو وشارع محمد محمود كما هو واضح للعيان وفي فترتين زمنيتين مختلفتين. المجلس العسكري ينظر إلى موعد الانتخابات على أنه موعد مقدس، فقرارات العسكر على ما يبدو لا تقبل التراجع عنها، بينما الناس في التحرير وفي جمعة الشهيد يرون أن الدماء هي المقدسة، وإجراء الانتخابات في موعدها وفي هذا الجو يوحي بأن دما سيسيل، ولكن لدى العسكر الموعد أهم من الدماء على ما يبدو.

ملامح الصدام بين العسكر والميدان جاءت واضحة في اختيار المجلس للدكتور كمال الجنزوري لرئاسة الوزراء، ورفضه التحرير، واقتراح حكومة التحرير حكومة إنقاذ بديلة بقيادة البرادعي، وكل من تقابل مع العسكر يقول إن غالبية المجلس العسكري لا يطيقون الرجل، وإن كان هذا صحيحا فنحن أمام صدام على مستوى القمة وعلى مستوى القاع في الشوارع، وهذه وصفة سيئة للإنقاذ.

الموقف العسكري متصلب وموقف التحرير يعوزه بعض الرشد، فحكومة التحرير المقترحة بقيادة البرادعي خطوة مهمة، ولكن التحرير ركز على الأشخاص وترك المعايير الموضوعية.

في تصوري أن حكومة التحرير قد تصلح للإنقاذ، شريطة أن تكون الكفاءة والتمثيل معيارين حاكمين، وبالكفاءة أعني الإدارة والقبول أيضا، أما التمثيل فما زال التحرير يختصر مصر في القاهرة، والتمثيل يتطلب أن تعكس الحكومة كل ميادين التحرير في ربوع الوطن، ليكون في الحكومة رجل أو امرأة تمثل جنوب الوادي، وآخر يمثل الإسكندرية، وربما اثنان لتمثيل مدن السواحل في السويس ودمياط والبحر الأحمر وسيناء. التوازن الجهوي في حكومة الإنقاذ ضرورة، أما ما هو مقترح الآن فيبدو أنه مأخوذ من مبدأ كل من «طلع شويه على التلفزيون، فهو مرشح لحكومة الإنقاذ الوطني»، وهذا عيب التحرير، على الرغم من أن الكثيرين يترددون في نقد التحرير الآن.

هناك فرصة لكي يتنفس الوطن، فليس من المعقول إجراء انتخابات في جو من العنف مضافا إليها أزمة حكومتي التحرير وحكومة العسكر، فبينما عاصفة المواجهة تستجمع قواها يريد المجلس إجراء انتخابات. نعم الانتخابات هي طريق للوصول إلى الشرعية في بلد تتنازع شرعيته قوى مختلفة، ولكن ليس من المعقول أن نبحث عن الشرعية بطرق غير شرعية.

الإخوان يريدون الانتخابات لأنهم يظنون أنهم هم من سيفوز بها ويرسمون ملامح البرلمان والدستور على طريقتهم، والموجودون في التحرير يرون أن الانتخابات ستكون مغشوشة من المنبع، فالناس قد لا تذهب إلى الانتخابات والجماعات الإسلامية سترهب الناس إما للتصويت لهم أو البقاء في بيوتهم. ومن هنا نحن نتحدث عن انتخابات مطعون في شرعيتها قبل أن تبدأ، وليست هذه هي الطريقة التي تصل بها الشعوب إلى الشرعية المدعومة بإجماع أو أغلبية مجتمع.

وثيقة السلمي التي تجعل من الجيش دولة داخل الدولة كانت كاشفة عن أن العسكر لا يريدون التخلي عن السلطة إلا من خلال وسيلة تضمن لهم أن يكونوا فوق السياسة وفوق كل سلطات المجتمع، وذلك من أجل حماية مكاسبهم.

في هذه الأجواء يصعب تصور حل يرضي معظم الأطراف، وعلى ما يبدو أن المصريين في اتجاههم إلى التصادم الكبير باسم صناديق الاقتراع وباسم الديمقراطية هذه المرة.

ومع ذلك فالحل في رأيي يتمثل في إرجاء الانتخابات حتى تسمح الأجواء بإجرائها وتكون الانتخابات نهاية للعنف، أما الآن فستكون الانتخابات بمثابة إطلاق صفارة البداية لماراثون العنف في المحروسة. إضافة إلى إرجاء الانتخابات، يجب على المشير أن ينظر خارج النادي المغلق لشوية العائلات التي تحكم مصر، ويحاول أن يمثل الوطن كله من خلال اختياره لحكومة جديدة تأخذ البرادعي رئيسا، بناء على طلب التحرير، ثم تدع الرجل يختار الكفاءات بعيدا عن السياسيين، آخذا في الاعتبار التمثيل الجهوي والعمري للوطن، فليس من المعقول أن يحكم من هم في الثمانينات مجتمعا معظم سكانه في العشرينات من العمر، وليس معقولا أن تتحكم القاهرة في كل الوطن بهذا الشكل.

اللامركزية أساسية في تفكيك النظام الديكتاتوري، ومشاركة السلطة بين القاهرة والأقاليم في رأيي أهم من إقالة الديكتاتور نفسه. ديكتاتورية القاهرة وتسيدها المشهد يعكس رغبة دفينة لدى العسكر، وأتجرأ وأقول لدى ميدان التحرير أيضا، إن الجميع لا يريدون اكتمال الثورة. الثورة ليست تغيير أشخاص، وليست تمثيل ذات المسرحية بوجوه جديد لأبطالها. المطلوب تغيير النص كله وليس الممثلين فقط. الثورة هي تغيير المنظومة القيمية لمصر ونقلها من مجتمع الشلل المغلقة وعالم المكافأة إلى عالم الشفافية والانفتاح وعالم الكفاءة. وحتى هذه اللحظة ما زالت الشللية والمكافأة هي المعيار الحاكم لدى كل الأطراف، ولأن الدوائر الثلاث مغلقة فالانزلاق إلى الحفرة ودوامة العنف هو البديل الذي ينتظر المشهد المصري، الكل يرى هذا السيناريو ولا يريد أن يتنازل قليلا عن موقفه لإبطال مفعوله. ما نراه في مصر هو مناورات سيئة النوايا تدفع بالوطن إلى التمزق، وكل هذا مدفوع بأحقر ما في الإنسان من دوافع بدائية من أجل تعظيم مصالح في نهاية المطاف هي مصالح صغيرة.