توجد طرق عديدة لإنقاذ الوطن من غير ذبحه

TT

من الأدب الشعبي القديم.. يقول أحد الحكماء «ولا كل من لبس العمامة عالم، ولا كل من رفع الحسام فارس، ولا كل من ركب الحصان خيّال» ونستطيع أن نضيف إلى هذه المقولة جملة واحدة من الأدب الشعبي الحديث هي.. ولا كل من وقف في ميدان التحرير ثائر.

والثائر الذي نقصده هو ذلك الشخص الذي يريد العدل والحرية ويعرف الطريق إلى تحقيق كليهما، هو القادر على تحويل غضبه إلى فكرة صحيحة تستند إلى منطق سليم وأهم من ذلك كله أن تكون قابلة للتحقق بأقل قدر من الخسائر.

المقولة الشعبية القديمة توضح بجلاء تلك القاعدة الحياتية الشهيرة وهي أن الأمور ليست دائما كما توحي به المظاهر وأنه على الإنسان أن يبحث عنها في الفعل الإنساني وليس في الشكل الظاهر، فأن تضع العمامة على رأسك فذلك لا يعني أنك أحد المشايخ أو العلماء أو أنك أكثر طهرا وتقوى من الآخرين، فربما تكون دجالا أو باحثا عن القوة السياسية تستمتع فيها بحكم البشر والتحكم فيهم، وأن ترفع سيفا بيدك فهذا لا يعني أنك فارس فربما تكون مجرد بلطجي، كما أن اعتلاءك صهوة حصان لا يكفي لكي تكون فارسا فربما تكون مشتغلا بالسياحة تؤجر حصانك للسياح في منطقة الأهرامات. وبالتالي فإن وجودك في ميدان التحرير في حد ذاته لا يعني أنك ثائر باحث عن العدل والحرية، لا بد من دلائل أخرى واضحة تكسبك هذه الصفة. مهما كانت درجة الغضب داخل الثائر فهو قادر دائما على شرح ما يريد وإيضاح ما في رغباته من شرعية تجبرك على الاستجابة لما يريد. غير أن ما أراه الآن على شاشات التلفزيون وأسمعه، فهو وبكل المقاييس يفتقر إلى المنطق حيث تطلب الناس الشيء ونقيضه في نفس اللحظة. وفي غياب المنطق، وفي غياب أي وسائل أخرى نفهم منها أسباب ثورة الثائر، فليس أمامنا إلا أن نعتقد أننا في مواجهة فورة عاتية من التمرد ليس هدفها تحسين الأحوال في مصر بل الاستمتاع بالتمرد في حد ذاته، وهو ذلك الاستمتاع الذي تدفع مصر كلها ثمنه.

هذه هي الموجة الثانية من ثورة يناير، وهي موجة عالية وعاتية بملامح مختلفة تماما عن الأولى، سنلاحظ للوهلة الأولى رفض الثوار (أسميهم هكذا مؤقتا إلى أن أشرب حليب السباع وأكتسب الجرأة الكافية لقول اسمهم الصحيح) لكل قادة الثورة الأولى من الشبان، كما أنهم قاموا بطرد كل القيادات الحزبية الموجودة على الساحة على اختلاف ألوانهم وتوجهاتهم، وكأنهم يخشون أن تحصل القيادات القديمة على جزء من نصيبهم من الاستمتاع. لست أبحث عن معنى الكلمات المنطلقة في سماء ميدان التحرير، أنا أحاول فقط فهم الفعل الواضح هناك، الفعل الوحيد الواضح هو المحاولات المتكررة للزحف على وزارة الداخلية والاستيلاء عليها، هنا تتحقق أقصى درجات اللذة والتي يمكن وصفها بأورجازم الثورة. كل مذيعي الفضائيات يصيحون متسائلين: لماذا تريدون مهاجمة وزارة الداخلية؟

الإجابة سهلة للغاية بشرط أن تتخلى عن كل ما تعرفه وما تعلمته وعن المكان والمكانة التي وصلت إليها، لا بد أن تكون مفلسا تماما لتعرف الإجابة، الوصول إلى أسوار وزارة الداخلية واقتحام مكاتبها والاستيلاء على أجهزتها وأوراقها وسجلاتها تمثل أعلى درجات المتعة الناتجة عن النصر، هذا هو النصر الذي يرفضون بشدة أن يشاركهم فيه أحد من القيادات الأخرى، هذا هو النصر الذي هم على استعداد للموت من أجل تحقيقه. في العشرة شهور الماضية اكتسب المجتمع المصري نجوما جددا، وهم هؤلاء الذين كانوا في ميدان التحرير، وبحثا عن البراءة أو طلبا للمجد، هناك كلمات أصبحت مثار فخر للمتحدثين، وهي كل الجمل والعبارات التي تحتوي على كلمة «التحرير»، لقد تمكن ثوار الموجة الأولى من تحقيق النصر بإزالة حسني مبارك ورجال نظامه، وهو نصر غير قابل للتكرار لأنه لا يوجد سوى مبارك واحد، غير أن النصر يظل متاحا بإزالة من أتى للسلطة بعده وهم رجال المجلس العسكري وعلى رأسهم المشير طنطاوي، ولما كانت المعارك لا تكون معارك من غير الاستيلاء على موقع كبير وحصين لذلك كان لا بد من الاستيلاء على وزارة الداخلية، غير أن وزارة الداخلية كما هو متوقع قررت أن تقاوم دفاعا عن سمعتها وعن حياة رجالها فسقط الضحايا بالعشرات، خمسة وثلاثون قتيلا وآلاف المصابين عند كتابة هذه السطور. وارتفعت الصيحات في مصر وخارجها تدين عنف الشرطة المصرية التي تعاملت مع الثوار بطريقة عنيفة، بالتأكيد عندما تريد اقتحام قسم شرطة وليس وزارة الداخلية فمن غير المتوقع أن تتعامل معك الشرطة بطريقة لطيفة.

تسليم السلطة للمدنيين لا بد أن يمر عبر إجراءات ومنها الانتخابات بغض النظر عمن ستأتي به، ثم الرئاسة والدستور بغض النظر عمن يسبق الآخر، فلماذا اختراع ثورات يسقط فيها القتلى والجرحى وتشل فيها البلاد قبل الانتخابات بساعات؟ لقد علمتني الأيام وكتب التحليل النفسي أن الحقيقة الموضوعية تكون ملكا للإنسان الفرد وأن الحشود ربما تصيح طالبة ما ليست في حاجة إليه أو تنادي بعكس ما تريده تماما، أنا لا أصدق أن هؤلاء السدادة يريدون بالفعل تسليم قيادة مصر للمدنيين، هم بالفعل عمليا يعطلون ذلك، ويصنعون واقعا من شأنه أن تظل مصر في حاجة للقوات المسلحة لسنوات قادمة.

بقيت كلمة للسادة أصحاب برامج الفضائيات، أعرف مدى ما تتمتعون به من جرأة لا يحظى بها كاتب هذه السطور، غير أني ألاحظ أن كلا منكم يقدم أوراق اعتماده لدى ثوار الموجة الثانية من خلال الكلمات المراوغة المداهنة وذلك عندما تتكلمون عن طرفين وضرورة الفصل بينهما، الموقف الصحيح الذي يجب أن تتخذوه - كما أرى بعد إذنكم - هو أن تقفوا بحزم ضد كل من يهاجم أو يحاول مهاجمة مؤسسة أمنية أو أي مؤسسة أخرى عامة أو خاصة وأن تطلبوا منهم بكل وضوح الانسحاب وعدم ارتكاب هذه الحماقة، والله لو أن هؤلاء الثوار فاقدي الهدف والتوجه عرفوا أن الرأي العام ممثلا فيكم يقف ضد هذا الفعل وهو ضده في حقيقة الأمر، إذن لانسحبوا بهدوء ولانتهت هذه الحكاية السخيفة التي تشعرنا جميعا بالخجل قبل الألم.

نحن في موقف يحتم علينا جميعا الدفاع عن وزارة الداخلية وعن المؤسسة العسكرية وعلى كل هؤلاء المتحدثين العاجزين عن الوصول إلى الناس أن يلجأوا لعبارات بسيطة واضحة وقوية يذكرون فيها الناس أنه ليس من حقهم العدوان على مواطنيهم بقطع الأرزاق عنهم كما يحدث لكل مؤسسات ومكاتب ومحلات ميدان التحرير، توجد طرق عديدة لإنقاذ الوطن من غير ذبحه.