سلوكيات ومواقف ضارة

TT

رغم أن ما حدث في القاهرة من اعتداء بعض المعارضين السوريين الذين ينتمون إلى المجلس الوطني السوري، على بعض القياديين في هيئة التنسيق الوطنية لقوى التغيير الوطني الديمقراطي الذين كانوا على موعد مع الأمين العام لجامعة الدول العربية، يمثل تطرفا في التعبير عن حدود الاختلاف في مواقف كلا التشكيلين الرئيسيين للمعارضة السورية، شكل في المحصلة خدمة كبيرة للنظام السوري لجهة تزويده بمادة واقعية استخدمها بصورة مكثفة في خطابه الإعلامي والدعائي الموجه لجمهوره ولجمهور الصامتين على وجه الخصوص.

«انظروا (أيها السوريون) إلى المعارضة كيف تعتدي على بعضها قبل أن تكون في السلطة، فكيف سوف تتعامل معكم إذا استلمت السلطة»، مقولة جهد الإعلام السوري على توظيفها في خطابه الدعائي والتحريضي، وللأسف نجح في إيصالها كحقيقة إلى جمهور كثير؛ إذ كيف لقوى معارضة تدعي أنها تعمل على إسقاط النظام الاستبدادي من أجل بناء نظام ديمقراطي، وترفع من مبدأ الاختلاف، والحق فيه، والحق في الدفاع عنه، إلى مرتبة القيمة العليا نظريا، لم تستطع تحمله واقعيا، مع طرف معارض يعمل مثلها على إسقاط النظام، ويطمح مثلها لضرورة بناء نظام ديمقراطي تعددي، تنبثق فيه السلطة من صناديق الاقتراع.

لقد حصل الضرر للمعارضة وكسب النظام، رغم كل المحاولات اللاحقة للتخفيف منه بإحالته إلى أفراد «موتورين»، أو بالقول إنه تصرف غير مسؤول من أفراد غير مسؤولين، أو بإدانته بأشد العبارات قوة كما فعل الدكتور غليون في بيان مطول صدر عنه يقول فيه «مجلس لا يقبل بالاختلاف وبحرية التعبير لا يمثلني»، أو من خلال الاتصالات المباشرة التي جرت بين بعض القياديين من المجلس الوطني مثل بسمة القضماني أو جبر الشوفي أو المرشد العام للإخوان المسلمين المهندس محمد رياض الشقفة وآخرين. وما إن هدأ الحديث عن حادثة الاعتداء على أعضاء الوفد القيادي لهيئة التنسيق الوطنية بعض الشيء حتى جاء من يصب الزيت على ناره فأججها من جديد، وهذه المرة من خلال الاعتداء على أعضاء وفد من الفنانين السوريين وهيئات مدنية أخرى في المكان ذاته. وإذا كان المبرر في حادثة الاعتداء الأولى كما ذكر المعتدون أنفسهم هو منع الوفد من تقديم طلب للأمين العام للجامعة يتضمن عدم تعليق عضوية سوريا في الجامعة وهو ما تبين أنه غير صحيح بالمطلق، فإن المبرر الذي ساقوه في الحادثة الثانية هو أن مجموعة الفنانين وصحبهم هم من مؤيدي النظام. مرة أخرى يجري انتهاك مبدأ حرية التعبير، ومبدأ الحق في الاختلاف، وهذا ما ألحق ضررا جديدا بمصداقية المعارضة، وزود وسائل إعلام النظام بمادة دعائية جديدة ذات مصداقية.

في السياق ذاته تأتي التصريحات غير المسؤولة لبعض قادة المعارضة البارزين مثل السيد محمد رياض الشقفة الذي صرح بأن الشعب السوري سوف يقبل التدخل العسكري التركي في سوريا لحماية السوريين وإنشاء مناطق عازلة أو فرض حظر جوي لهذا الغرض، الأمر الذي استدعى تنبيهه من قبل الناطق الرسمي باسم جماعة الإخوان المسلمين السيد زهير سالم بأن ما صرح به هو رأيه الشخصي ولا يعبر عن رأي الجماعة، بل هو مخالف لما تعاقدت عليه من نبذ لكل أشكال العنف والتدخل العسكري الخارجي في سوري. وتندرج في الإطار ذاته تصريحات السيد سمير النشار رئيس الأمانة العامة لإعلان دمشق والعضو البارز في قيادة المجلس الوطني السوري بأن «الحرب الأهلية، أو التدخل العسكري الخارجي أهون من حكم آل الأسد، لأن الحرب الأهلية والتدخل العسكري الخارجي مؤقتان في حين أن حكم آل الأسد دائم». وهو بذلك لا يعد الشعب السوري إلا بالطرق المؤدية إلى الجحيم، مما ألحق ضررا ليس قليلا بقضية تحرر الشعب السوري من نظامه الفاسد، وذلك من خلال الأثر السلبي الذي تركته تصريحاته على أوساط المترددين والصامتين. وإذا كانت المواقف السابقة قد صدرت عن بعض المعارضين المنتمين إلى المجلس الوطني السوري، فليست قليلة أيضا المواقف والسلوكيات الضارة بقضية تحرر الشعب السوري من نظامه الاستبدادي التي صدرت عن معارضين منتمين إلى هيئة التنسيق الوطنية لقوى التغيير الوطني الديمقراطي. من ذلك التهجم الحاد غير المبرر الذي وجهه السيد هيثم مناع لشخصيات بارزة في المجلس الوطني السوري، الأمر الذي اقتضى لومه من قبل المكتب التنفيذي لهيئة التنسيق. وربما الأخطر من ذلك تردد الهيئة في التعبير الصريح عن مطلبها في إسقاط النظام، والاكتفاء بالحديث عن إسقاط النظام الاستبدادي الأمني، الأمر الذي فسح بالمجال لتأويلات مختلفة، ألحقت في المحصلة ضررا ليس قليلا بالمعارضة السورية ككل وفي مقدمتها الحراك الشعبي في الشارع، من خلال وضعها في مواجهة بعضها البعض على صعيد الخطاب السياسي، والشعارات، بل وتخوينها. ومع أن الهيئة في مجلسها المركزي قد تجاوزت ذلك، غير أن الضرر قد حصل، وطالها القسم الأكبر منه.

للأسف كثيرة هي المواقف والسلوكيات التي تصدر عن أطراف المعارضة المختلفة والتي لا تخدم قضية الشعب السوري التي تدعي حمل لوائها سياسيا، ومن أخطرها انقسام المعارضة وتشرذمها، وتنافسها في قضية ادعاء تمثيل الشعب السورية وانتفاضته المجيدة. ثمة كثير في شعارات الشارع الثائر، وفي مطالبه، أو فيما يرفعه بعض المعارضين السياسيين، لا يستند إلى رؤية تحليلية سياسية للواقع السوري، وما يسمح به، سوف تكون له للأسف آثاره الضارة على القضية بمجملها، وسوف تعقد الوضع كثيرا، وربما تتسبب بإراقة مزيد من الدماء.

ينبغي أن لا تنسى المعارضة الوطنية الديمقراطية أنها غير قادرة على إسقاط النظام الاستبدادي بقوة الحركات الاحتجاجية الحالية التي أنهكها قمع النظام المنفلت من أي ضوابط، بل لا بد من العمل المكثف على خروج الجمهور الصامت والمتردد، حتى الآن، في كل من حلب ودمشق والحسكة والرقة والساحل السوري وغيرها من المناطق، وهذا لا يكون إلا من خلال تقديم مثال معارض متفوق على النظام سياسيا وأخلاقيا. وخير مثال يمكن تقديمه هو توحيد المعارضة بمختلف أطيافها على رؤية سياسية واحدة لمتطلبات المرحلة الانتقالية، ولسوريا الديمقراطية المنشودة، والتحلي بالصبر وتمثل قيم الحرية والديمقراطية، وهذا يتطلب التخلي عن الحسابات الضيقة وتأجيلها لامتحان صناديق الاقتراع، والتركيز على ما يجمع بينها وهو كثير.

ينبغي العمل بجدية على قضية توحيد المعارضة اليوم قبل الغد، والاستفادة من مساعي جامعة الدول العربية والعديد من دول العالم المعنية بالشأن السوري التي تضغط في هذا الاتجاه.