الإنسان في قلب الحيوان

TT

شكرا للقراء، ومنهم السادة يحيى صابر شريف ويوسف الدجاني وسامي البغدادي، ممن هزتهم مقالتي عما فعله الكوماندر لانغسدورف في تفضيل الانتحار لنفسه على خوض معركة انتحارية لجنوده. القارئ الفاضل مازن الشيخ يتساءل: هل من بديل للعنف والقتل؟ نعم. والبديل هو الإيمان بالجهاد المدني (اللاعنف الإسلامي) والعمل به، على نحو ما اتبعه غاندي ونال بفضله استقلال الهند.

الحقيقة هي أن تاريخ الحروب يتغنى بالانتصارات الدامية ويتجاهل الكثير من الصفحات الإنسانية. فكثيرا ما تسمو روح الإنسان في المحارب، الحيوان الكاسر، وتتألق في أغرب المواقف.

كان منها ما فعله الجنرال هوغو، والد الكاتب الروائي الشهير فيكتور هوغو، خلال قيادته الجيش الفرنسي في غزو إسبانيا على عهد نابليون. عند توقف القتال مساء بعد معركة طاحنة، خرج الجنرال هوغو ليتفقد ما خلفته المعركة من قتلى وجرحى. سمع أثناء ذلك جنديا إسبانيا جريحا يستغيث ويردد: «ماء!.. ماء!.. ماء!». نظر الجنرال الفرنسي صوبه ثم أشار إلى مرافقه الضابط وأمره: «أعطه الماء». وفيما كان الضابط يأخذ شيئا من الماء للعدو الجريح، لاحظ ذلك الجندي الجريح أن من أمامه هو القائد الفرنسي نفسه، فالتقط بندقيته وأطلق الرصاص عليه. ولكن الجنرال نزل رأسه بخفة الضابط المجرب، فتفادى الرصاصة. ولكنها أصابت قبعته البونبارتية العالية وأطارتها من رأسه. نظر ثانية في وجه من حاول قتله ثم أشار إلى الضابط المرافق ثانية وقال له: «أعطه الماء!».

لا شك أن في تاريخنا الإسلامي حكايات مشابهة. كان منها ما سمعته من أحد المشاركين في الحرب العراقية - الإيرانية ورويتها في إحدى قصصي القصيرة في مجموعة «ما قيل وما يقول».

بعد قتال عنيف في جبهة المحمرة، رمى جندي عراقي نفسه في حفرة متجنبا القنابل الساقطة. ما إن استقر غبار المعركة، رأى أمامه جنديا إيرانيا مختبئا مثله في الحفرة. مسك كل منهما بندقيته استعدادا، من منهما يقتل الآخر أولا. ولكن الجندي الإيراني نادى غريمه: «مسلم؟». لم يسأله عن مذهبه سني أو شيعي. كانا في حضرة ملك الموت. فسأله فقط: «مسلم؟». هز الجندي العراقي رأسه إيجابا. وضع كل منهما سلاحه بجانبه. وعاد دوي القنابل والصواريخ. رفع الجندي العراقي رأسه قليلا ليرى ما الذي يجري في ساحة القتال. ولكن الجندي الإيراني صرخ به بعربية مكسرة: «نزلي راسك!.. نزلي راسك!.. انت تريدين تموت؟!». وأطاع العراقي ونزل رأسه. استمر القصف وتعالت سحب الغبار لتلفهما ثانية. بعد دقائق هدأ دوي المدافع وزال الغبار. نظر الجندي العراقي صوب غريمه في القتال وأخيه في الإيمان فرأى الجندي الإيراني وقد مزقت أحشاءه شظية من شظايا القنابل المتساقطة. وكان منظرا مريعا. فرفع الحي منهما يديه وقرأ سورة الفاتحة وترحم على روح القتيل!