الفلسطيني الذي تبنى بي نظير بوتو

TT

في لقاءات سهى عرفات مع «الشرق الأوسط» أضاءت على بعض النواحي الخافتة في حياة غائب فلسطين. كنت أعرف أن ياسر عرفات يقدم مساعدات كثيرة خارج دائرة المعوزين الفلسطينيين، وكان البعض يرى في ذلك اعتداء على خزينة اللاجئين ويتامى الشهداء، وكان البعض الآخر جزءا من روح إنسانية تتعدى أبناء شعبه. لكنني لم أكن أعرف مدى ذكاء أبو عمار في توظيف هذا الجانب سياسيا.

تروي سهى عرفات أنه عندما كان ذو الفقار علي بوتو في السجن، تكفل أبو عمار بمصاريف دراسة بي نظير بوتو الجامعية. وقال لرئيسة وزراء باكستان المقبلة: «ضياء الحق سوف يقتل والدك.. دعيني أقم مقامه في تعليمك». لا أشك في الدافع العاطفي عنده، ويومها لم يكن أحد يحسب أن بي نظير سوف تصبح زعيمة باكستان، ولا كان أحد يتوقع أن تبقى عائلة بوتو في الحياة السياسية.

أراد عرفات أن يقدم لابنة علي بوتو ما لم تستطع كل قوى الأرض أن تحرم منه الفلسطينيين: التعليم. كل عائلة فلسطينية قررت أن العلم هو وطنها البديل وهو كرامتها في الشتات. وتفاخر ذات يوم بالقول: «صار عندي خريجون أكثر مما عند إسرائيل». وعندما خرج الفلسطينيون من أرضهم إلى المنفى، خرجوا أساتذة وطلابا. وثمة أجيال في لبنان وسوريا والخليج والعراق تدين للمعلمين الفلسطينيين بفضل العلم.

كانت أول مرة جاء فيها ياسر عرفات إلى لندن كضيف رسمي عام 1997. صدفت زيارته في الوقت الذي كنا نستعد فيه للعودة إلى لبنان بعد 24 سنة متواصلة في هذه المدينة الفسيحة النفس. جاءتني الدعوة إلى حفل الاستقبال في «الكارلتون تاور» من السفارة الباكستانية مرفقة بطلب تأكيد الحضور أو الاعتذار. وأبلغت السفارة تلقائيا بالقبول، لكنني رحت أقول في نفسي بعدها: ماذا يأخذني إلى السفارة الباكستانية، وأنا أعتذر عن 95 في المائة من استقبالات السفارات العربية؟ وهل لم يجد ياسر عرفات سفارة عربية ترعى استقباله؟ وهل لا يحق لمنظمة التحرير توجيه الدعوة؟ وهل تخاف الجامعة العربية أن ترعى هي الاستقبال، وقد جاء أول زعيم فلسطيني إلى بلاد بلفور بدعوة رسمية؟

فكرت أن أصرف النظر عن الحضور، ثم تذكرت أنني وعدت، ثم قلت: أين يمكن أن أرى ياسر عرفات بعد اليوم، وقد عاد إلى فلسطين نصف عودة، ولا يمكن زيارته إلا من بوابة إسرائيلية؟

كنت بين أواخر الحاضرين، وكان يقف إلى جانبه الصديق باسل عقل. وكان العناق أبو عماريا مألوفا ولكن لفترة غير مألوفة. وأخيرا رفع رأسه وقال: «اعتقدت أنك مسافر، فهل يمكن أن نأتي إلى لندن ولا تحضر؟»، تلعثمت في الاعتذار. وسألني: «متى سنراك عندنا؟»، قلت «عندما يصبح الدخول حرا».

لم أكن أعرف أن تلك ستكون آخر مرة أرى فيها ياسر عرفات. وعندما قرأت مقابلات أرملته أدركت لماذا كان الاستقبال في السفارة الباكستانية.

كان ذلك الفلاح الفلسطيني مذهلا في إقامة العلاقات غير المتوقعة، ومحزنا في تدمير العلاقات الطبيعية.