لا.. ما مر شيء كهذا

TT

عندما يصير المرء في عمرنا يصبح مثل حكماء القرى، كلما رآهم شاب سألهم: هل مر بكم شيء من هذا؟ والله ما مر بنا شيء كهذا حماك الله. شاهدنا مصر تثور من قبل، لكننا لم نشهدها على هذا التجاذب: عسكر ومدنيون، إخوان وسلفيون، ليبراليون ومحافظون. كانت تثور وتهدأ، تخرج إلى الشوارع لكنها تعود للنوم في البيت، ترفع صورة رجل واحد وتهتف له. أما الآن فما يقلق أنها ترفع إطارا لا صورة فيه. علامات الاستفهام مخيفة، يا بني.

ويا عزيزي لا أريدك أن تخاف أكثر، لكن علامات الاستفهام دليل سيئ.. أعني كثرتها، أربعة رؤساء مخلدين يحزمون حقائبهم قبل أن ينصرم العام، ثم، يا بني، يا له من عام، هذا العام. كل فرحة لها غصة، وكل ما قبل له ما بعد، وكل جواب علامة استفهام. فإذا كان كمال الجنزوري هو الحل فقد كان هو خيار مبارك أولا. والوضع في سوريا مخيف ومحزن، يا عزيزي، كل هذه الدماء من أجل ماذا؟ لماذا هذا الظلم الكبير؟ ولكن أيضا ليس في ذاكرتي أن العرب عاقبوا بلدا عربيا بالمقاطعة الاقتصادية. سوريا بلد متعب اقتصاديا في الأساس، وقد تعلمنا، من العراق وليبيا، أن العقوبات تؤذي الناس وليس القصور والسرايات، ولكن ما الحكمة في أن يخوض النظام السوري حربا ضد الناس والعرب ولا يصدق سوى موقف الروس وغموض الموقف الإيراني؟

اعتدنا أن نرى سوريا في عزلة غربية، لكن هل ترضى دمشق لتاريخها ألا يكون معها سوى رئيس اليمن قبل أسبوع من استقالته؟ هذا كله لم نرَه من قبلُ، ولم نرَ أن حماس تترك دمشق لتعود إلى عمان مع وقفة للتزود في الدوحة، ولا رأينا دولة مثل قطر تقاتل في ليبيا وتستقبل من اللاجئين السياسيين أكثر مما استقبلت مصر أيام عبد الناصر، ولا تخيلنا أن وزير خارجية تركيا (ووزير الاقتصاد) سوف يحضر اجتماع وزراء الخارجية العرب. وفي الماضي كان اللاجئون يعبرون من تركيا إلى العالم العربي، وليس العكس. ومن الحابل؟ ومن النابل في هذا اليم العارم؟ ومنذ متى كان عسكر مصر هم الفريق الذي يريد السترة؟ وكيف ظهر الأزهر، فجأة، يؤم الجماهير كما يؤم المصلين؟ وهل حقا تراجع الإخوان أمام وهج الأضواء المفاجئة، أم كالعادة تكتيك يا مولانا؟

في أقل من ثلاثة أشهر تغير الحكام في إيطاليا وإسبانيا واليونان: الأولى رمت «دون جوانها» إلى مصح جنسي، والثانية عادت من اليسار إلى اليمين، والثالثة ارتضت رئيس وزراء يطالبها بوقف الرقص والخروج من الملاهي. الناس انتقوا أولا وانتقوا أخيرا، لكن ميدان التحرير عيَّن في البداية رئيس وزراء لا يعرفه ولا يعرف قدراته، والآن يريد، في الحماس ذاته، إقالة رئيس معين وتعيين رئيس جديد. هذا كله في الميدان. وهذا مثير لكنه مقلق. الدول لا تقوم في الميادين ولا تدوم في الميادين. الشعب يريد إقامة النظام والهدوء والاقتصاد والحياة الطبيعية. والشعب يريد من العسكر الخروج. لكن لا تذهبوا بعيدا. لا أحد يريد سقوط الأمن أيضا.