«تبرع.. ولو بـ65 مليون دولار!»

TT

شاع في مصر.. في وقت من الأوقات، شعار كان يقول «اتبرع.. ولو بجنيه» وقد انتشر بين الناس، في وقته، وحقق هدفه تماما، واستطاع القائمون عليه، والمصممون له، أن يستغلوا قبوله وشيوعه بين المواطنين، ثم عائده، في بناء أكبر مستشفى في مصر لعلاج الأطفال..

وكان الهدف من ورائه، كما نرى، أن يتبرع كل من يسمعه، بشيء ما، من ماله، حتى ولو كان هذا الشيء، هو مجرد جنيه مصري واحد.. لا أكثر.. بما يعني ضمنا، أن المطلوب منك، كمتبرع، وقتها، أن تتبرع في كل الأحوال، بما هو أكثر طبعا، لأن عبارة «ولو.. بجنيه» معناها أن هذا هو الحد الأدنى، الذي لا أقل منه، وأنك يجب أن تتبرع بما هو أعلى، خصوصا إذا كنت قادرا..

لأسباب كثيرة، شاع الشعار، كما قلت، وساد بين المصريين، وحقق إعجازا حقيقيا اسمه مستشفى «57357» للأطفال، ولا يزال المستشفى يتوسع، ويكبر، بفعل بداية شعار من هذا النوع، ثم بفعل تطويره المستمر من جانب أصحابه، وبفعل استخدامه بتطويراته المختلفة في دفع القادرين إلى الذهاب ببعض من أموالهم إلى هناك..

أجواء كهذه، لا بد أن تطوف في ذهنك، وأنت تتابع الحملة التي يقودها رجال إعلام وأعمال، من بينهم الدكتور علي السمان، والمهندس نجيب ساويرس، هذه الأيام، للتبرع.. ولكن.. ليس من أجل استكمال المستشفى ذاته، هذه المرة، ولا حتى من أجل بناء مستشفى جديد، وإنما من أجل إنقاذ منظمة «اليونسكو» في مقرها في باريس، من الإفلاس، الذي قد يصل بها إلى حد إغلاق أبوابها..

والسبب، كما نعرف جميعا، أن المنظمة كانت قد قررت، قبل أسابيع، قبول فلسطين، عضوا كاملا فيها، لأول مرة.. مما أغضب الولايات المتحدة الأميركية، فقررت على الفور، الامتناع عن دفع نصيبها في ميزانية المنظمة، وهو نصيب يصل إلى %22 من الميزانية إجمالا، وقيمته 65 مليون دولار.. وليست هذه هي المرة الأولى، التي تلجأ فيها واشنطن، إلى إجراء من هذا النوع، مع المنظمة ذاتها.. فمن قبل، وتحديدا عام 1984 كانت قد فعلت الشيء نفسه، لأن أحمد مختار أمبو، مدير المنظمة في ذلك الوقت، كان قد فعل شيئا، أغضب الإدارة الأميركية ولم يأت على هواها، في حينه، فعاقبته، وعاقبت منظمته، وعاقبت قبل ذلك وبعده، العالم كله، لأن اسم المنظمة في الأصل، هو: «منظمة الأمم المتحدة للعلوم، والثقافة، والتربية».. بما يعني أنها تهتم بهذه الشؤون الثلاثة، على امتداد العالم كله، وليس في أميركا وحدها، ولا في فرنسا وحدها، وبما يعني أيضا، أن أي عقاب لها، كمنظمة، إنما هو عقاب للتربية، وللثقافة، وللعلوم، في كل بلد، وليس عقابا لـ«أمبو» عام 1984 ولا لـ«إيرينا بوكوفا» مديرة المنظمة، الآن، وهي سيدة، لم تجد مفرا، والحال هكذا، إلا أن تعلن تعليق أنشطة اليونسكو، ابتداء من تاريخ إعلان الولايات المتحدة، التوقف عن دفع نصيبها، في الميزانية، إلى آخر السنة، لتوفير 35 مليون دولار..

ولكن.. بما أن «واشنطن» قد فعلتها من قبل، فإنها هذه المرة، يجب أن لا تثير غضبنا، لأنها، كما هو واضح، ليست الأولى، وربما لا تكون الأخيرة، غير أن الأهم، هنا، أن نلتفت إلى شيئين مهمين، أولهما أن الولايات المتحدة، وهي تقرر التوقف عن دفع نصيبها في الميزانية، وتدفع دولا أخرى إلى اتخاذ الإجراء ذاته، مثل كندا وألمانيا، إنما تدوس على شؤون التربية، والثقافة، والعلوم، في أي بلد، ثم تظل تتكلم طول الوقت، عنها، أي عن هذه الشؤون الثلاثة، وعن أهميتها، وتصدع رؤوسنا بحديثها في هذا الاتجاه، رغم أنه حديث يسقط على الفور، عند أول اختبار له، على مستوى اليونسكو، كما رأينا، ثم رأى العالم كله معنا..

الشيء الثاني، أن كلام الإدارة الأميركية، عن سعيها إلى إقامة دولة فلسطينية، على أرض فلسطين المحتلة، يجب أن يؤخذ دوما، بحذر شديد، بل وأكاد أقول إن علينا ألا نصدق حرفا منه، بعد اليوم، لا لشيء، إلا لأن «اليونسكو» عندما قررت قبول فلسطين، عضوا كاملا فيها، كانت «تعمل» ولا «تتكلم» فقط من أجل إقامة دولة فلسطينية، فإذا بعقاب أميركي شديد، ينزل عليها، وإذا بالغضب الأميركي، يلاحقها، ويلاحق معها سائر دول العالم، التي من المفترض أن تمارس اليونسكو أنشطتها فيها!!.. فأين، إذن، مصداقية أي كلمة أميركية.. عن إمكانية قيام دولة فلسطينية، في أي وقت؟!.. بل إن المرء، حيث يسترجع خطاب الرئيس «أوباما» في جامعة القاهرة، بعد توليه السلطة بشهور، عن سعيه نحو إقامة دولة فلسطينية، يدرك على الفور، حجم الخداع الذي كان الرئيس الأميركي، ولا يزال، يمارسه علينا، عندما يفتح هذا الملف، أو يخوض فيه!

لا أعرف، في المقابل، إلي أي مدى يمكن أن تصل الحملة التي يقودها رجل الإعلام الكبير، ورجل الأعمال الشهير، من أجل أن يتبرع أغنياء العرب، وقادروهم، بما يوفر 65 مليون دولار؟!.. ولا أعرف ما إذا كان من اللائق، أن تشتق حملتهما، شعارا آخر من الشعار المصري إياه، ليكون الشعار الجديد هكذا: اتبرع.. ولو بـ65 مليون دولار!.. ولكن ما أعرفه، أن مبلغا بهذا الحجم، ليس معجزا، لكثيرين من أثرياء العرب، وأن بعضهم يستطيع، لو شاء، أن يتبرع بأضعافه.. ولكن.. مرة أخرى.. ليست هذه هي المشكلة.. وإنما المشكلة الحقيقية، هي أن علينا أن ندرك جيدا، أن هناك مسافة هائلة، بين نيات الأميركان، تجاه مبدأ إقامة دولة فلسطينية، وبين كلامهم، وحين تقارن أنت، بين الموقف الأميركي، في الأمم المتحدة، في سبتمبر الماضي، ضد طرح هذا المبدأ، أثناء الاجتماع السنوي للمنظمة الدولية في نيويورك، وبين كلام الرئيس الأميركي، في بدايات عهده، وأثناء خطابه، في القاهرة، تكتشف في اللحظة، أنه لا علاقة مطلقا، بين مضمون الخطاب في القاهرة، وجوهر الموقف، في نيويورك، وأنهم يفترضون فينا سذاجة، وعجزا، وعبطا، بلا حدود!

اتبرع.. ولو بـ65 مليون دولار، يجب ألا يكون لإنقاذ اليونسكو، فهي في كل الأحوال، لن تفلس، ولن تغلق أبوابها، لأن امتناع الأميركان، عام 84 عن دفع نصيبهم، لم يفلسها، ولم يغلق أبوابها، ولذلك، فالتبرع، إذا تم، يجب أن يكون من أجل إقامة «نصب تذكاري»؟ في 22 عاصمة عربية، لعلنا جميعا حين نراه نتذكر، في كل وقت، أن الدولة الفلسطينية، عندما يكتب لها الله تعالى أن تقوم، فسوف يكون ذلك بأيدينا.. وأيدينا نحن.. وليس بأيدي الأميركان، ولا غير الأميركان!