جدة تبعث من جديد

TT

هل تبعث المدن من رقادها ومن سباتها أو من موتها؟ من الممكن التأمل في هذا السؤال الفلسفي واستحضار نماذج مختلفة من الذاكرة في حاضرها وماضيها ومحاولة الإجابة عنه بدقة. فالتاريخ يبين لنا أن الكوارث الطبيعية عصفت بالعديد من مراكز المدنية في العالم، مثل مكسيكو سيتي وكوبي وأغادير، التي دمرتها زلازل هائلة تسببت في ضرر مهول بالبنى التحتية بها، وكلفت البلايين من الدولارات والمئات من الأرواح، ومدن أخرى شهدت فيضانات وأعاصير مثل نيوأورليانز وميامي تسببت هي الأخرى في إحداث أضرار خيالية.

وهناك مدن كان للفساد والإهمال والتسيب الإداري وقعه الكارثي عليها، وأدى إلى الأضرار ذاتها، وتسبب في انخفاض حاد لمؤشر «جودة الحياة» فيها، وهو مؤشر دقيق تقاس به نسبة رضا السكان عن الخدمات والأمن وفعالية الأنظمة.. مدن كبرى مثل نيويورك ولاغوس وكلكتا على سبيل المثال لا الحصر.

وسعوديا، انضمت للفئة الأخيرة هذه عروس البحر الأحمر بوابة الحرمين الشريفين جدة، التي تحولت في السنوات الأخيرة إلى أم ثكلى تبكي ماضيها وجمالها الذي خطف منها لأسباب متعددة، أهمهما الإهمال الممنهج والفساد الواضح، وأصابتها المصائب تلو الأخرى بين ما هو طبيعي مثل السيول الهائلة في سنتين متتاليتين، والفساد والإهمال الإداري الذي أدى إلى «اختفاء» شبكة الصرف الصحي عن مدينة يسكنها أكثر من أربعة ملايين ونصف المليون نسمة، مع عدم إغفال مشاكل أخرى أساءت للمدينة تشمل اهتراء البنية التحتية للطرق والشوارع والجسور وتدهور حال مطارها الأكبر ومينائها الأهم بشكل أقل ما يقال عنه إنه مزرٍ ومخجل، حتى تحولت حالة جدة إلى مسألة تدعو للمراجعة الفورية لوضع حد لهذه المهزلة.

وكان الحراك لمواجهة ذلك من أعلى سلطة في البلاد بأمر ملكي من خادم الحرمين الشريفين الملك عبد الله بن عبد العزيز، الذي أمر وزارة المالية بإزالة القيود والعوائق والأعذار والصرف الفوري على مشاريع جدة المتأخرة، وبمتابعة من ولي العهد الأمير نايف بن عبد العزيز، وإشراف شخصي وميداني مستمر من أمير منطقة مكة المكرمة الأمير خالد الفيصل الذي وعد بأن جدة ستكون على موعد جديد. وكان كلامه مهما جدا لكنه وقع على مواطنين تعبوا وتضرروا وكان الكثيرون ما بين مصدق ومشكك وخائف.

واليوم يبدو جليا أن جدة على موعد جديد مع مستقبل أفضل من ناحية جاهزية بنيتها التحتية لتواكب تطورات نموها السكاني حتى تليق بمدينة عصرية تنتمي للقرن الحادي والعشرين. فهي اليوم ورشة عمل كبرى يتم الانتهاء من بنية تحتية متكاملة بها لمعالجة سيول الأمطار من كل مواقعها بسدود فائقة المواصفات أقيمت بـ«ذمة» ومهنية حقيقية، وأنجز أيضا مشروع رمزي لافت آخر وهو تجفيف بحيرة «المسك» القبيحة التي كانت عارا ليس على مدينة جدة فحسب ولكن على السعودية كافة، وهي التي كانت علاجا غبيا لمشكلة بالغة الخطورة، حيث كان الهدف منها عمل مصب لنفايات الصرف الصحي، لكنها تحولت إلى قنبلة صحية يتضرر منها الكل.

وكذلك الأمر بالنسبة لاستكمال توصيل المياه إلى كل مناطق المدينة، وهي التي كانت تشتكي مر الشكوى من انقطاع المياه بشكل معيب وغير لائق، وكانت هناك حالة إنكار غير مقبولة للأزمة جعلت من وزير المياه يصف الوضع بأن حالة انقطاع المياه في جدة وشكوى السكان من ذلك ما هي إلا «أزمة نفسية»! وكذلك الأمر بالنسبة لمعالجة النفايات وأضرارها، والتي كانت ملقاة بشكل همجي وغير مسؤول، وتم التغلب عليها بشكل حازم وحاسم.. يضاف إلى ذلك تحسن واضح في رصف وسفلتة الطرق والشوارع، وشبه اختفاء للحفريات والمطبات التي كانت علامة صارخة في جدة.. وهناك طبعا المشروع العملاق المنتظر لعمل تطوير كامل في مطار جدة الذي قتل بحثا في ما يخص مشاكله وأزماته.

لم يكن مبالغا الأمير خالد الفيصل في حديثه لأهل جدة البارحة حينما قال: «إن جدة وصلت لبر الأمان من أزمة خانقة جدا، وإن ذلك هو بداية الطريق الصحيح لتصحيح الكثير من الأخطاء والمشاكل التي عصفت بالمدينة بشكل غير بريء أبدا».

مبروك ليس فقط لجدة وأهلها، بل للسعودية كافة، على إنجاز ما تم إنجازه في جدة، وكل الأمل أن تتواصل هذه السيرة الطيبة بلا توقف، فالناس تفاءلوا ويستحقون المزيد.. فجدة تبعث من جديد.

[email protected]