مشاريع فتنة إقليمية.. الواقع والمزعوم

TT

«وعاجز الرأي مضياعٌ لفرصته - حتى إذا فات أمرٌ عاتب القدَرا»

(أبو الفضل الرياشي)

حتى هذه اللحظة، أي بعد مرور تسعة أشهر على انتفاضة الشعب السوري، أشجع انتفاضات «الربيع العربي»، يرفض النظام في دمشق الإقرار بوجود ضحايا مدنيين سقطوا ويسقطون ضحية إجرام مسلحي النظام المعروفين بـ«الشبّيحة». إلا أنه، في المقابل، يشدد على تصدّيه لـ«مؤامرة خارجية» تستهدف ممانعته ومقاومته المشروع الصهيوني - الأميركي.

لا جديد في هذا الكلام الذي تنقله يوميا أبواق النظام، داخل سوريا وخارجها، ومعها «أوركسترا» الأصوات الحليفة في جبهة «الممانعة» و«المقاومة» المزعومتين. لكن الجديد، والخطير حقا، أننا بتنا في وضع «الراعي والذئب» في قصة الأطفال، التي تعلمناها في المدارس، عن راع كان لكي يكسر ملل رعيه قطيعه من الأغنام، يصرخ طالبا من أهل قريته إنجاده بحجة ذئب يهاجم أغنامه. وكان الأهالي يهبّون لنجدته بلا تردّد.. لكنهم ما كانوا يجدون الذئب، بل يرون أمامهم الراعي وهو يضحك ملء شدقيه على «تمريره» كذبته عليهم.

في نهاية الأمر تعلّم الأهالي الدرس، ولسوء طالع الراعي الكذّاب، أنه عندما هاجمه الذئب ذات يوم و«طرح الصوت» على الأهالي.. لم يهبّ أحد لنجدته، فكان من أمره وأمر أغنامه ما كان..

الأكاذيب عن «المندسّين» سمعناها منذ اليوم الأول، بينما لم يكلّف أحد من جهابذة الإعلام الرسمي السوري نفسه عناء تفسير أسباب قتل الأطفال، ولماذا لا يستهدف «المندسّون» تظاهرات النظام ولا يظهرون إلا لإجهاض تظاهرات خصومه وتنكيد عيشهم!

ثم سمعنا عن تهريب أسلحة عبر الحدود اللبنانية.. وعن تسمية «المهرّبين» المزعومين بالاسم، ولكن فجأة تبدّل التركيز وتحوّلت أصابع الاتهام من الغرب إلى الشمال.. فغدت تركيا بؤرة تآمر وتحريض وتسليح وتدريب.

وسمعنا أن المشاكل محدودة جدا، والمسألة برمّتها «خلصت» (انتهت)، وكل ما في الأمر أن بعض القنوات الفضائية «تفتعل أزمة غير موجودة».. لكن وزير الخارجية وليد المعلّم، بعد محوه أوروبا عن الخارطة، عاد فاعترف خلال مؤتمر صحافي بليغ.. بـ«وجود أزمة». وإذا كان لنا أن نتذكّر المسيرات التي سيّرها النظام، فإنها كانت تُسيّر تحت شعار «الإصلاحات»، مما يعني ضمنا وجود خلل ما، وإلا فلماذا الحاجة إلى إصلاح؟ وإصلاح ماذا إذا كان كل شيء على ما يرام.. وإذا كان «السيد الرئيس» لا يخطئ، وبالتالي فهو فوق مستوى الشك، فما بالك بالمحاسبة؟!

الرئيس الأسد تكلّم أخيرا عن «مشاريع» في المنطقة، والكلام نفسه سبق أن كرّره السيّد حسن نصر الله، أمين عام حزب الله اللبناني.

نعم هناك مشاريع في منطقة الشرق الأوسط، لا شك في ذلك مطلقا.

أولها، حتما «المشروع الصهيوني الإسرائيلي»، الذي ولد في أواخر القرن التاسع عشر، والذي تبنته رسميا الولايات المتحدة في ما بعد بفضل نصيحة كلارك كليفورد للرئيس الأميركي هاري ترومان، فغدت بذا أول المُعترفين بقيام إسرائيل. وصار «أمن إسرائيل» وفق الحسابات المصلحية الثنائية جزءا من السياسة الأميركية الداخلية. وبالتالي، صار من العبث ادعاء البطولات الفارغة في مواجهة إسرائيل بمعزل عن العمل جديا على إسقاط أهميتها الاستراتيجية لواشنطن.

واليوم، علينا إدراك أن «التحرّش» الإعلامي بإسرائيل، وبناء الترسانات المصطنعة بحجة محوها عن الخارطة - على طريقة وليد المعلّم - مع تجاهل كونها حتى اللحظة جزءا من الاستراتيجية الأميركية الإقليمية، ينطوي على تضليل فظيع لشعوب المنطقة.. الغاية منه تحسين شروط المُساكنة معها ومع المصالح الأميركية.

المشروع الثاني، كما يُقال لنا هو مشروع «السنيّة السياسية»، الذي نسمع من الرئيس بشار الأسد والبطريرك الماروني بشارة الراعي، وحليفهما رئيس الوزراء العراقي نوري المالكي، أنه مشروع هيمنة على مقدّرات الأقليّات وصولا إلى ضربها واضطهادها، وهو الآن «يستفحل» بمفعولَي «الطموح التركي العثماني» و«الربيع العربي».

هذا المشروع المزعوم ربما كان موجودا في أذهان البعض. فقد لا يزال هناك مَن تدغدغه الطروحات التكفيرية المتشنّجة، ومَن يتوهّم أنه مؤهل لمصادرة خيارات الآخرين وفرض مواقفه عليهم. لكن ألا نرى أن هذا «البعض» لا يشكل مشروعا متجانسا حقيقيا.

فهل استكانت الدول ذات الغالبية السنية الكاسحة لنشاطات تنظيم القاعدة وعلى صعيد مختلف جدا؟ هل نجحت حتى التنظيمات «الإسلامية» المعتدلة والعاقلة في تونس والمغرب، حيث يربو عدد المسلمين السنّة عن 99.9 في المائة من السكان، في اجتياح الساحة السياسية عبر الانتخابات الحرة في عام «الربيع العربي»؟ وهل طمأن الإسلاميون في مصر - كبرى بلدان العرب - عسكرها، وكسبوا ثقة شباب ثورتها؟ ألسنا نرى إرهاصات ثورة متردّدة مرتبكة، ما كانت لتتردّد وترتبك لو كان خلفها حقا «مايسترو» أصولي يضبط إيقاعها.. ويطبّق «مشروعا» أصوليا مزعوما؟

ثم كيف يكون هناك - كما يزعمون - مشروع هيمنة لـ«السنّية السياسية».. عندما يكون ثالث أكبر المكوّنات السنيّة في منطقة الشرق الأدنى، وهو المكوّن الكردي، على عداء استراتيجي مكشوف مع المكوّن الثاني.. التركي؟

وهنا نصل إلى المشروع الثالث، الذي يصفه تيار عريض في المنطقة اليوم بـ«مشروع الشيعية السياسية» تحت قيادة إيرانية تستلهم خطواتها، تكتيكيا واستراتيجيا، من أوامر «الولي الفقيه».

قد يكون ثمة مبالغة في الكلام عن تمدّد إيراني داخل الوطن العربي، غير أن الواقع - مع مزيد الأسف - يبدّد اليوم أي شك بحقيقة وجود هذا التمدّد.

إن الشراسة الدموية التي تظهرها آلة القمع العسكري السورية - الساكتة دهرا عند خط الهدنة في الجولان - في محاولاتها إخضاع المدن والقرى السورية وإذلالها.. لمؤشر خطير على طبيعة نظام خدع السوريين والعرب والعالم طويلا بأنه نظام «قومي» و«مقاوم» و«لا طائفي».

كذلك مؤشر خطير لمستقبل وحدة المسلمين والعرب في كيفية اصطفاف قطع الشطرنج الإقليمية الطائفية على رقعة «الهلال الخصيب» الذي ما عاد خصيبا. وكيف شُبكت حلقات مصادرته، حلقةً حلقةً، من قُم إلى اللاذقية وصور، بعدما سمح غزو «الشيطان الأكبر» الأميركي وحده عام 2003 بإشراع أبواب بغداد المحتلة أمام عودة حكّام العراق الحاليين من طهران.. في أعقاب إسقاط طغيان صدّام حسين.

مفارقة غريبة حقا تحذير بعضهم من «زلازل» إقليمية إذا ما سقط نظام يزلزل يوميا كل مقوّمات التعايش، وأن تزعم تنظيمات مذهبية قرارها خارج أرضها وسلاحها موجه إلى صدور أبناء وطنها أنها حريصة على محاربة إسرائيل.. بينما تمعن في تمزيق نسيج مجتمعاتها وتضع أقلياته في مهبّ الريح.