بالرجل الشمال نبدأ في مصر!

TT

الطبيعي بعد كل الثورات أن يتم انتخاب مجلس تأسيسي للدستور يرسم قواعد اللعبة الديمقراطية ويحدد المفاهيم الحاكمة للدولة الجديدة، شيء أشبه بالعمارة، أي ترسم مخطط المبنى أولا بما يناسب احتياجاتك واحتياجات أهلك، ثم تباشر البناء، أما نحن في مصر فقررنا أن نبدأ البناء، وبعدين نشوف «إيه حيطلع معانا»، ثم نرسم المخطط.

بدأت عملية البناء أمس في صورة انتخابات برلمان الثورة، كما يسمى في مصر، وبدأنا كما تسير طوابير العسكر في معسكرات المستجدين «بالرجل الشمال»، هكذا كان ينادي الشاويش في كتيبة العسكر، «معتادا مارش». حتى الآن هناك إقبال غير مسبوق على الانتخابات في مصر، كما تقول التقارير الأولية، ولكن الاتهامات بشحن البوابين في مدينة نصر واستخراج بطاقات انتخابية لهم للتصويت لصالح الإخوان، أو اتهامات حزب الوسط لحزب الإخوان المعروف بالحرية والعدالة، بسرقة استمارات الانتخابات، كل ذلك يقول إننا نسير في اتجاه الشرعية بانتخابات سيكون مطعونا في شرعيتها. فهل هذه هي البداية التي يريدها المجلس العسكري لمصر أم أنه أحس بالخطر فقرر أن يشرك الناس في اللعبة على طريقته.

تصريحات عضو المجلس العسكري المخول بالقضايا القانونية اللواء شاهين، الذي قال فيها إن البرلمان المقبل لن تكون له صلاحيات إقالة الحكومة أو تغييرها حسب الإعلان الدستوري، ولا يمكن له أن يقترب من الحديث عن القوات المسلحة حتى كتابة الدستور الجديد، أي أنه برلمان بلا صلاحيات، مجرد جزء من العملية، ولا دور له في رسمها، أو هكذا يتصور اللواء شاهين، غير مدرك أن العملية التي انطلقت بالرجل الشمال لن تأتي كلها حسب الخطة التي رسمها الجيش لبرلمان الثورة. نعم لن تكون للبرلمان صلاحيات، ولكن البرلمان والمليونيات قد يلتقيان معا لرسم ملامح عملية جديدة لا أحد يعلم إلى أين تسير، فمصر انتقلت بعد الثورة من السياسة المؤسسية إلى سياسة الشوارع والميادين، أي أن اللعبة برمتها خارج الأطر القانونية من أجل إرساء قوانين جديدة للعبة.

وفي هذا لا يختلف المحتشدون في الميادين عن العسكر في القبول بأن العملية تبدأ أولا، ثم نقرر كم مليونا حضروا مظاهرتنا، ومن أي تيار، ثم نرسم بعدها ملامح اللعبة حسب الثقل النسبي لكل كتلة.

العمل خارج الأطر القانونية هو السمة الأساسية للعبة السياسية في مصر الآن، وقد بدأها جمال مبارك عندما كان يروج لحملة التوريث عن طريق حملات يدعى بأنها تطوعية وشعبية، ولكنها كانت حملات مدفوعة الأجر، دفع نظام مبارك ثمنها، فهل سيدفع العسكر ذات الثمن، عندما بدأوا عملية بناء مستقبل مصر بالرجل الشمال كما نرى.

نحن نفترض حتى الآن أن العملية الانتخابية برمتها ستسير بسلام، ولكن قد يكون هذا في بعض أحياء القاهرة والإسكندرية الأكثر تعلما ومدنية، ولكن ما إن تنتقل العملية الانتخابية إلى محافظات الشمال، وإلى سيناء والصعيد، فسينزل عنف الشوارع، الذي رأيناه في مظاهرات ماسبيرو وشارع محمد محمود، إلى المستويات الأدنى، إلى الشوارع والنجوع، حيث يكون للعنف وجه، وسيكون لمن يقومون بالعنف ويمارسونه أسماء وعناوين، وأسماء عائلات وقبائل. ساعتها سينتقل العنف من حالته المدنية التي يروح الناس فيها ضحية الزحام والمظاهرات ورصاصات وزارة الداخلية وربما الجيش، سيذهب الناس ضحايا عنف الثأر في الصعيد وفي الشمال وعند بدو سيناء، عندما تزور الانتخابات على الطريقة القديمة. سيكون للقاتل اسم وعائلة وقبيلة مطلوب الانتقام منها ومطلوبة بحق الدم، ولهذا قواعد صارمة لا يجوز الاستهانة بها.

لو حدث هذا العنف في المستويات الدنيا بالصورة التي نتوقعها، فيكون المجلس العسكري قد بدأ العملية السياسية المصرية فعلا بالرجل الشمال.

رغم الانتخابات وعلى الرغم من المظاهرات، فإن من يتمعن قليلا في شكل مصر وفي أسماء من يتصدرون المشهد يدرك أننا نتحدث عن نفس الوجوه التي كانت ذات حظوة أيام حكم مبارك وبعد أن لبست قناع الثورة، وظهرت مرات كثيرة في الفضائيات وغسلت سمعتها، نجد كل الوجوه ذاتها في مجلس مستشاري المجلس العسكري، وقادة للتنسيق بين المجلس والثورة، نفس النص بأبطال جدد للمسرحية ولكن أقل كفاءة. يبدو أنه في مصر، وكما يقول المثل الفرنسي: كلما تغيرت الأشياء، أصبحت كما كانت بالضبط تقريبا. وبالفعل تغيرت مصر بعد الثورة، ولكن وبعد مرور تسعة أشهر، إذا ما نظرت إلى المشهد، لخلت أنه مشهد حكم مبارك ذاته، تغيرت الأمور فأصبحت كما كانت بالضبط تقريبا. نفس الأقارب ونفس العائلات يتصدرون المشهد، وما الانتخابات إلا تلك العملية التي تضفي غطاء شرعيا على تكتلات غير شرعية.

بالرجل الشمال بدأ العسكر مستقبل مصر وهكذا قد تكون، وربما أولى نتائج هذه العملية أن تبقى مصر خارج الخدمة لمدة عشر سنوات مقبلة. تبدو العبارة قوية وغير مقبولة الآن، ولكن في معظم مقالاتي عن مصر، كان الأصدقاء يستغربون ما أقول في لحظتها والبعض منهم يرميني بالتشاؤم، ثم يعود بعدها بشهور ليقول لي: «فاكر المقال الفلاني اللي أنت كتبته من شهور، والله كنت فيه على حق». أتمنى ألا يكون الحال كذلك في هذا المقال.