الحنكة أحيانا يمانية.. والنخوة دائما سعودية

TT

هذا الذي شهدته الرياض يوم الأربعاء 23 نوفمبر (تشرين الثاني) 2011 يجوز تصنيف طبيعته بعبارة: الحنكة أحيانا يمانية والنخوة دائما سعودية. وكدنا نقول «الحكمة يمانية» استنادا إلى ما هو سائد بالنسبة إلى إخواننا اليمنيين، لولا أن الذي عاشه اليمن طوال سنتين من الكر والفر والدم المراق على جوانب ميادين صنعاء ومدن وبلدات أخرى في الشمال والجنوب على حد سواء، كان يفتقد إلى الحكمة من جانب الذين انتفضوا وأولئك المنتفِضين عليهم، ربما لأن زمن الحكماء ولَّى؛ فلا هناك نعمان ولا أرياني يرفع الواحد منهما كتاب اليمن العاقل بين أهل القصر والثكنات وأهل الميادين والطرقات، وعلى نحو رفع المصاحف لاتقاء ويلات اقتتال أبناء الوطن الواحد والدين الواحد.

لكن من حسن حظ أهل اليمن أن العناية الإلهية أعانت الملك عبد الله بن عبد العزيز الذي يزداد صدره اتساعا كلما ضاقت مساحة التروي لدى الذين يتنازعون، فاعتمد على النخوة المستديمة والنية المستقيمة وواصل السعي والانتظار، آملا أن يأخذ الوعي طريقه إلى العقول والنفوس، فيقرر أبناء اليمن ما لا يقرره أبناء المحروسة مصر، الذين يمعنون تمثيلا بتاريخهم وهدوئهم ومقاصدهم، وأبناء العراق الذين لم يحسموا أمر العراق المستقيم يسيرون عليه متوحدين بدل هذا التنابذ الذي قد يؤدي إلى تناثر بلاد الرافدين، وأبناء ليبيا المستباحة التي استبدلت مضطرة ما هو الأكثر مرارة نتيجة معاناة طال أمدها بما هو بالمرارة نفسها.

وما قرره أهل اليمن وبما هو متيسر لهم رئيسا ومعارضة من العقد والربط، كان وضع أمرهم بين يدي عبد الله بن عبد العزيز؛ ليس فقط لأن المملكة العربية السعودية هي العمق المطمئن لأهل اليمن في السراء والضراء، وإنما لأن الأحوال اليمنية وصلت إلى درجة أن لا نهاية لتدهورها من دون صاحب نخوة يسدي الرأي المخلص ويداوي الجرح النازف ويتعامل مع أبناء الأمة بما يجعلهم غير قانطين، وبما، في الوقت نفسه، يبقيهم في منأى عن الخوف الآتي مما هو أعظم. والذي يعزز شأن هذا الدور الإنقاذي للملك عبد الله أن إخوانه قادة دول مجلس التعاون الخليجي يشاركونه المشاعر نفسها تجاه أهل اليمن، ومن هنا فإن اللقاء الذي تم في قصر الملك عبد الله بين اليمن الذي يحكم واليمن الذي يعارض بدا كما لو أن هؤلاء القادة يعالجون أمر العضو السابع في مجلسهم، الذي سبق أن أعطى إشارات بأنه مفتوح أمام انضمام مملكتين (المغربية الرابضة على ضفاف الأطلسي والأردنية التي تفصلها ساعة طيران عن الأرض الخليجية) إليه عندما تنضج الظروف وتؤكد حاجة كل منهما إلى ذلك.

كان المتفَق عليه من جانب الأمم المتحدة في شخص جمال بن عمر، مبعوث الأمين العام وعبد اللطيف الزياني الأمين العام «مجلس التعاون لدول الخليج العربية» وأطراف الأزمة اليمنية، من خلال أهل الحكم ورموز من المعارضة، أن يتولى عبد ربه منصور هادي، نائب الرئيس، التوقيع على المبادرة الخليجية إلى توقيع أطراف ثم يبدأ التنفيذ، بل إن بن عمر أبلغ الصحافيين في صنعاء يوم الثلاثاء 22 نوفمبر (أي قبل ساعات) من حصول المفاجأة التي شهدتها الرياض، أن المطلوب منهم التوقيع على المبادرة التي تأخذ طريقها إلى التنفيذ توصلوا إلى اتفاق حول الآلية التنفيذية للمبادرة وأنه يجري حاليا الترتيب لتوقيعها من دون أن يحدد موعدا لذلك، تاركا في ساحة التكهنات الكثير من الافتراضات. ومن الواضح أن المبعوث الدولي كان يعرف أن الأمر قد حسم وتحددت ساعة التوقيع ومكانه، إلا أنه اعتمد شيئا من التمويه الإيجابي، تصرف كما لو أنه في غرفة عمليات عسكرية ولا يريد جنرالاتها الإفصاح عن موعد التنفيذ، كي لا تفقد الخطوة عنصر المفاجأة فيها أو ربما تحدث عرقلة ما في اللحظة الأخيرة، وأن الأفضل درءا لذلك هو أن تكون لحظة التوقيع من جانب الجميع وفي المكان الذي تم اختياره، الذي هو قصر الملك عبد الله، هي الإعلان.

لن تكون نهاية المطاف، بالنسبة إلى الدور السعودي المهتم بترويض الصراعات والأزمات التي تعصف بمعظم دول المنطقة، هذه الخطوة المتمثلة بوضع الجسم اليمني المبتلى بالتحدي في غرفة العناية الفائقة، التي طالما استقبلت ماضيا الجسم اللبناني فأعادت إليه ما جعله قابلا للحياة، بدليل أنه بعد 22 سنة على اتفاق الطائف لا يجد اللبنانيون صيغة أفضل لكيانهم السياسي في إطار وفاق العاقلين أو المتعقلين لدواعي البقاء والسلامة، أفضل من ذلك الاتفاق الذي لخص راعي مؤتمره في الطائف على مدى شهر، الملك فهد بن عبد العزيز، يوم الإعلان الرسمي عنه (الثلاثاء 24 أكتوبر «تشرين الأول» 1989)، بالقول: «إذا كان الشعب اللبناني في خير وبحبوحة، انعكس ذلك على المملكة، كما أن العكس صحيح»، أما لماذا لن تكون الخطوة المشار إليها، التي وضعت اليمن على بداية طريق يحتاج إلى تنظيفه من بقايا ألغام سياسية مزروعة، نهاية المطاف، فلأن إنجاز صيغة للجانب الأصعب من الأزمة اليمنية، يستحضر إحياء المسعى السابق الذي كان بمثابة وضع حجر الأساس من جانب الملك عبد الله لترويض الصراعات والأزمات التي تمعن أكلا في الجسم العربي. والمسعى الذي نشير إليه هو المتمثل بمحاولة جمع الشقيقتين الفلسطينيتين اللدودتين «فتح» و«حماس» للتعايش داخل البيت الواحد وإنهاء نزاع بينهما لم يسبب لقضيتهما سوى الويلات والمزيد من الإنهاك لجوهر القضية الفلسطينية. وإذا جاز القول فإن ركني الموضوع الفلسطيني باتا في ضوء استرشادهما بالذي جرى للموضوع اليمني، وبعد المسعى المصري الذي انتهى إلى جمع محمود عباس وخالد مشعل على بداية كلمة فلسطينية سواء يأمل المرء التزام الجانبين بها إلى حين، يأملان في أن تشهد الرياض معاودة اللقاء الذي يرعاه عبد الله بن عبد العزيز كما رعايته للموضوع اليمني. كما أن رموز الوضع المرتبِك في العراق سيفتحون ولو بعد حين صفحة كتاب أزمتهم التي فيها دعوة عبد الله بن عبد العزيز إليهم لكي يجتازوا الحدود إلى الرياض ويبدأوا التحاور فيما بينهم مستندين إلى روحية «نداء الغيور»، الذي أطلقه الملك عبد الله قبل ثلاثة عشر شهرا (السبت 30 أكتوبر 2011)، ودعا فيه قادة العراق وفعالياته السياسية إلى لقاء تستضيفه الرياض مباشرة بعد موسم الحج تحت مظلة الجامعة العربية.

وإذا كان الشقيقان الفلسطينيان حضرا إلى مكة واتفقا وأبديا من الامتنان ما أوحى بأنهما سيلتزمان احتراما للكلمة وللعهد، لكنهما أخلفا، أو أن أحدهما هو الذي أخلف علنا، والثاني أخلف صمتا، لم يكونا عند حسن الظن الطيب بهما من المملكة الساعية إلى التوفيق بينهما ومن شعبهما بجناحيه وأضاعا وقتا لمصلحة القضية، فإن الأطياف العراقية رحبت عموما في أكثريتها، لكن دخول الجار الإيراني والحليف البشَّاري على خط رغبة غزة الحمساوية في تحقيق مصالحة، ودخول الجار إياه وبتشجيع الحليف البشَّاري على خط الرغبة العراقية المتطلعة إلى الرد على «نداء الغيور»، بما من شأنه أن يشجع مطلِق النداء على البذل المضاعَف حتى يتحقق التآلف، ضيع على الحالتين فرصة إنجاز تسوية كتلك التي حظي بها الموضوع اليمني. وليتصور المرء كم روحا بشرية أزهقت في بلاد الرافدين، وكم ارتفع عدد اليتامى والأرامل والمقعدين خلال ثلاثة عشر شهرا انقضت على إطلاق «نداء الغيور».

ما نريد قوله إن الأمور مهما تعقدت داخل أقطار الأمة تبقى تحت السيطرة في حال بادر صاحب مسعى طيب إلى التوفيق. وها هو المسعى الذي بذل من أجل الموضوع اليمني، وقبله الموضوع الفلسطيني، وقبل 22 سنة الموضوع اللبناني، المثال على ذلك. وحيث إن مسلسل الصراعات والأزمات داخل أقطار الأمة لم ينته؛ فإن علاجا سعوديا للموضوع السوري بمبادرة شبيهة بالمبادرة الخليجية لليمن، ومسعى من نوع آخر للموضوع المصري، هو ما يتمناه أبناء بعض أقطار الأمة الذين كانوا يخشون عاديات الزمن وباتوا يخافون انهيار الكيانات.