هز يا وز

TT

تزاملت معه منذ السنة الأولى الابتدائية في المدرسة النموذجية بالطائف في القسم الداخلي.

ولاحظت أن زميلي ذاك يعشق الموسيقى والرقص إلى درجة الجنون، ولا أستبعد أنه تعلم مفردات وألحان وأسماء الأغاني قبل أن ينطق (بابا وماما).

وفي السنة الرابعة الابتدائية سحبه والده وبعثه إلى بريطانيا وألحقه بمدرسة داخلية هناك، وانتهت صلتي به وكدت أنساه.

وذهبت إلى القاهرة في عام 1985، وبينما كنت جالسا بأمان الله في بهو الفندق (أمزمز) على كأس من عصير البرتقال، وإذا برجل وسيم و(شحط) يقف على رأسي ويناديني باسمي، لم أعرفه لأول وهلة إلا بعد أن عرفني بنفسه، وإذا هو زميلي القديم، أخذنا بعضنا بالأحضان، وأصر على أن يدعوني على العشاء معه لسهرة في أحد المرابع الليلية، فلبيت دعوته عن طيب خاطر، وكيف لا ألبيها وأنا محفول مكفول (من إلى)؟!

واكتشفت أنني لم أكن المدعو الوحيد، ففي طاولتنا المستديرة كان هناك ما لا يقل عن عشرة أشخاص من مختلف الأجناس، وبينهم الراقص اللبناني المشهور (كيغام)، الذي عرفت أنه صديق زميلي الروح بالروح - أي انهما مثل (رأسين بطاقية) - وهالني أن مضيفي في كل فاصل غنائي كان يقفز كالمعتوه على خشبة المسرح (وهات يا رقص)، وفي كل مرة يحاول أن يجرجرني معه، غير أنني أرفض ذلك بكل (إباء وشمم) متشبثا بكرسيي، مقتديا بالمثل القائل: (من رقص نقص)، ولا أدري كيف عدت تلك الليلة على خير، لأنني ما إن وضعت رأسي على المخدة حتى أحسست أن طبول العالم كلها تضرب على جمجمتي.

بعدها استلمني ذلك الزميل، ففي كل ليلة يتصل بي طالبا أن أصحبه في سهرة ليلية ليمارس هوايته بالرقص، وبحكم أنني لست غاويا للسهرات، وأحسست أن ذلك الإنسان سوف يتسلط علي بدعواته، قررت أن (أهج) وأن أغير الفندق نهائيا، وهذا هو ما حصل.

وبعدها بأيام وإذا بي أقرأ في الجريدة الصباحية انتحار الراقص (كيغام) عندما قذف بنفسه من الطابق العشرين في الفندق الذي هربت منه.

وأدبا مني ذهبت إلى زميلي لمواساته في صديقه العزيز، وكان طوال الوقت (يعيط) ولا عياط المرأة الثكلى، ولا شيء من الممكن أن أقدمه له غير المزيد من المناديل (الكلينكس) ليمسح بها دموعه ومخاطيه، ولا يمكن أن أنسى جملته عندما قال لي: كيف تكون الحياة بدون (كيغام)؟! كيف أعيش بدون تلك (الطلة)؟!

تركت القاهرة غير مأسوف عليها، ومن يومها انقطعت عن زميلي وأخباره.

وبما أن العالم صغير أكثر مما نتصور، فقد ذهبت قبل أيام مدعوا من أحد المعارف في جلسة عائلية، وإذا بي وجها لوجه مع زميلي القديم الراقص مصحوبا بحفيدته الصغيرة الجميلة التي لا يتعدى عمرها السنة والنصف، ولفت نظري أنه كلما رن تليفون محمول بنغمة موسيقية، أخذت الحفيدة الطفلة تتراقص عليها، غير أن ما هالني أكثر هو أنه عندما تناهى إلى أسماعنا صوت المؤذن من المسجد القريب قائلا: الله أكبر، إذا بالطفلة تهز وتتراقص مع صوت المؤذن، عندها لم أملك إلا أن أقول للزميل القديم: انتبه ترى (العرق دسّاس)، وأتبعتها قائلا وأنا أشير لحفيدته الصغيرة: (هذا وهو بلح وشلون لو طرح)، والظاهر أنه لم يفهم كلامي، لهذا اضطررت لأن أفسر له ما عنيت قائلا: يبدو أن (الجينات) الوراثية قد عملت عمايلها.

فضحك من كلامي وبدأ يهز و(يكهرب) بأكتافه ويغمز لي بعينيه وهو جالس على كرسيه.