رواية بقلمها

TT

ذُهل العالم عندما سمع أن سفيتلانا ستالين قررت اللجوء إلى الولايات المتحدة في ذروة الحرب الباردة. وقال رئيس الوزراء السوفياتي: «إنها امرأة مريض

ة في حاجة إلى مصح عقلي». وهو الوصف الذي كان يعطى لمشاهير المعارضين. لكن ما إن خرجت ابنة ستالين من أرضها حتى ضاقت بها كل أرض أخرى. عادت إلى روسيا، ثم عادت فتركتها، ثم عاشت في بريطانيا، ثم هاجرت من جديد إلى حياة شبه ريفية معزولة في ولاية ويسكونسن.

اختصرت تنقلاتها وزيجاتها الأربع وصعودها وهبوطها في مقابلة مع صحيفة الولاية: «أنَّى ذهبت بقيت أسيرة الاسم الذي أحمله.. اسم ستالين». حاولت الهرب منه بتبني اسم امها «سفيتلانا اللوليفا»، لكن العالم رفض أن ينسى اسم الأب. وفي كل يوم من حياتها كان عليها أن تقرأ، في مكان ما، في كتاب ما أو صحيفة ما أو مذكرات ما، أن والدها هو الرجل الذي قتل نحو 300 مليون إنسان، فيما عدا الذين نفاهم إلى سيبيريا، وبينهم زوجها الأول.

استقبلت الولايات المتحدة الابنة الهاربة من النعيم الشيوعي بكل أضواء الأرض، فتحت لها جميع الأبواب وصفقت لها في المسارح، ولما لم يبقَ في البرتقالة عصير، رمتها إلى النسيان. عادت إلى موسكو فوجدت نفسها غريبة، ووجدت أن الذين يكرهون الشيوعية لم يحبوا، ولم يسامحوا، إنكارها لوطنها. وهنا أدركت أن لعنة الغربة حلت عليها في كل مكان، وأن أقصى ما يمكن تحقيقه هو الحياة كامرأة عادية بعيدا عن كل شيء. توفيت وهي تعيش في شقة مؤجرة، مع ابنتها من زوجها الأميركي، الذي طلقها عام 1973. لقد حدث له ما حدث للأزواج الأربعة: لا يمكن طرد صورة ستالين من المخدع.

تذكرني سفيتلانا ستالين بـ«الحركيين»، أي الجزائريين الذين أيدوا فرنسا في حرب الاستقلال، فلما تصالحت باريس والجزائر لم يعد لهم مكان هنا أو هناك. بعد سقوط الاتحاد السوفياتي لم يعد للمنشقين الكبار مكان في روسيا أو أهمية في الغرب. لا وقت للدول – ولا للناس – تعيشه في الماضي. الحال تحول، كما قال المتنبي. وتلك الأسماء التي كانت تبهرنا في صحف العالم انتهت إلى سطور قليلة في صفحات الوفيات وسجل الغياب.

لكن سفيتلانا ستالين تبدو، في حياتها الصاخبة وفي موتها البعيد، شخصية في رواية روسية من تلك الروايات التي تقوم على السيَر الملحمية: ذروة القوة وذروة الضعف. ذروة الشهرة وقاع النسيان. ذروة الانتماء وذروة الإنكار. امرأة تكون ذات يوم أهم عنوان شامت في أميركا وأهم عنوان مهان في روسيا، ثم لا تكون سوى عنوان في شقة مؤجرة، في ولاية ثلجية.