عندما تأخذ الطبيعة مجراها؟!

TT

ليس سهلا أن تأخذ جماعة من أصحاب الرأي والفكر وصناع القرار السابقين واللاحقين مكانا قصيا لتداول الرأي فإذا بها تجد كل القضايا كالدوائر المغلقة التي تنتهي دائما عند ذات النقطة التي بدأت منها. حدث ذلك في تجمع حرص أصحابه على أن يكون في الصحراء وعلى حافة الربع الخالي حيث الفندق الفاخر المتخصص فيمن يهتمون بالغرود الرملية وانعكاسات الشمس عليها، وتلك اللحظة القدسية التي تطل عليها ساعة شروق الشمس وغروبها، وما بين هلة القمر وذهابه بين الظلمات. القاعدة المطروحة من أصحاب المكان هي ما يسمى قاعدة «شاتام هاوس» حيث تستطيع أن تنقل ما يدور دون أن تنسب رأيا إلى صاحبه، والفكرة هنا أن يقول كل حاضر رأيه دون قيود أو خوف أن طروحته الصريحة لن تجد نفسها على صفحات صحف اليوم التالي. ولكن الجاري في مثل هذه الأمور أن الحاضرين دوما لا يقولون الكثير حتى ولو كانت القاعدة مفترضة، وهم في كثير من الأحيان ليس لديهم ما يضيفونه إلى ما يعرفه الجميع، وعندما يكون الشرق الأوسط هو الموضوع، فالكل يعلم أنك سوف تلف وتدور لكي تصل إلى النقطة التي بدأت منها.

قضايا الشرق الأوسط كلها من إيران إلى فلسطين وحتى جاء الربيع العربي متشابكة، وعندما تتعدد حلقاتها فإن التعقيد يكفي لكي لا يقول أحد كلاما مفيدا في مجال صنع السياسة على الأقل. فالحقيقة هي أن أصحاب المقام طرحوا القضايا بصراحة كاملة، ووضعوا الخطوط الحمراء والخضراء، وبينوا المهم والأكثر أهمية، ولكن الجميع بعد ذلك كان يبحث عن حل سحري يعيد للمنطقة أيام الاستقرار السعيدة مع إضافة بعض من الديمقراطية التي بشرت بها أحداث آخر الأيام، أما عملية السلام العربي - الإسرائيلي التي يريدها الجميع دوما سوف يندبون حظهم لأنهم بدأوها إذا بدأت، ويذرفون الدمع لأنها لا تزال معلقة حتى أجل آخر، فهي دائما مطروحة لكي يتأكد الجميع أن السعي لم يتوقف.

ومع ذلك فإن كل أصحاب الخبرة يعرفون أنه لا يوجد حل بينما نتنياهو وليبرمان وأصحابهما في السلطة مصممون على تغيير موضوع التفاوض من خلال الاستيطان الذي لا يتوقف، وإذا كان الفلسطينيون لم يصلوا إلى مصالحة بعد فإن تمثيل الفلسطينيين يصير مشكلة، وحتى إذا تصالحوا فكيف يتفاوض الإسرائيليون مع سلطة بها طرف لا يريد الاعتراف بإسرائيل. المعضلة مع إيران أكثر حدة، والاختيار فيها أكثر صعوبة، فقد نجحت إيران في تخصيب اليورانيوم إلى درجة 20 في المائة وهي نسبة أكبر بكثير مما تحتاجه المفاعلات السلمية وهو ما يعني اقترابها من صنع «القنبلة» الذرية. معنى ذلك أن حل المسألة الإيرانية بطرق لا تضمن الضربة العسكرية مثل خطف وتهريب وقتل العلماء، وإدخال فيروسات إلى الأجهزة الإلكترونية الإيرانية ربما عطلت المشروع قليلا، شهورا أو أياما، أو أن إيران ربما لديها أكثر من مشروع واحد منها تجري وراءه وسائل الاستطلاع والمخابرات الغربية، والآخر يسير في مساره الطبيعي. الحقيقة الصعبة هي أن إيران رغم كل ذلك تقترب من اللحظة الحرجة لامتلاك السلاح الذي يعطيها قوة دولية وإقليمية تهدد الأمن الإقليمي والدولي معا. ولكن المشكلة أن مثل ذلك يحدث أثناء أزمة اقتصادية عالمية لا تزال طاحنة، وبعد تجربتين فاشلتين في التدخل الأجنبي في العراق وأفغانستان، وأثناء فترة الانتخابات الأميركية، وبينما العالم العربي يقف على ذلك الخط الفاصل بين جنة الأحلام الديمقراطية البعيدة، ونار الفوضى الكبيرة، بما يعنيه ذلك من هشاشة في الوضع الإقليمي كله بحيث لا يتحمل مواجهة عسكرية أخرى.

الربيع العربي أسفر بدوره عن وجوه كثيرة مختلفة تماما عن وجهه الأول، ولا يمكن التنبؤ بكيف ستكون عليه أحوال مصر وتونس وليبيا واليمن الآن بعد الثورة، ولا في سوريا أثناءها، وليس معلوما ما ستكون عليه الخطوة التالية، وأثناء الثورة المصرية وأمام جمع من خمسين صحافيا وفي حضور نائب رئيس الجمهورية السابق عمر سليمان أبديت خوفي من ذهاب ديكتاتورية قصر العروبة وحضور ديكتاتورية ميدان التحرير. ولكن الآراء لا تغير الكثير ساعة الثورة حيث الجماهير تندفع في موجات تسونامي لا يقف أمامها سد أو حائل، ولا تستطيع أن تضع خيارا ما بين الانتخابات أو تأجيلها أو حتى منعها، ومن يفكر في انقلاب عسكري على الأرجح أنه يعلم أنه ذاهب إلى انتحار.

في كل الأمور المطروحة على أطراف الربع الخالي أنت ملعون لو فعلت شيئا، ولكن اللعنة لن تكون أقل إذا لم تفعل، وذلك الاختيار الذي حل بريتشارد قلب الأسد في فيلم الرحل يوسف شاهين «الناصر صلاح الدين» حينما طلب من كاهنه إما أن يعطيه البركة أو اللعنة فورا لم تعد مطروحة في الواقع فليس بمثل هذه البساطة يكون السيناريو. أو هكذا كان سلوك بعض الحاضرين وهو تبيان كل ما هو خطأ وصعوبة في تنفيذ سيناريو من نوع أو آخر، وهو ما يترك الجميع بلا سيناريو على الإطلاق.

ومع ذلك فإن الرأي عندنا أن هناك خيارين ربما وجب أخذهما في الاعتبار؛ أولهما أن تترك الطبيعة لكي تأخذ مجراها، فلم يصل أحد لطريقة يوقف بها البراكين أو يمنع بها التسونامي، ولا تختلف «الطبيعة» السياسية عن غيرها من ظواهر الطبيعة الأخرى، وفي معظم الأحوال فإن حلا ما لا يأتي إلا بعد الانفجار حيث يعاد قياس توازنات القوى ويشعر الجميع أن الألم أكثر قسوة عندما تبتعد «السياسة». ولا أظن أنه كان ممكنا تسوية المسألة اليمنية دون الفترة التي ذهبت، ولا الآلام التي عاناها الجميع، وربما آن الأوان لكي يصل اليمن إلى مرحلة الآلام الثانية. لقد كان هنري كيسنجر يستخدم ذلك التعبير «أن تأخذ الطبيعة مجراها» كنوع من التهديد الذي كان كثيرا ما يكون له نتيجة، وأحيانا كانت الطبيعة تأتي دوما بما لا تشتهيه الأطراف.

الاختيار الثاني أن يجري الجهد السياسي الدبلوماسي، وربما ما هو أكثر من هذا وذاك، في قضية مركزية يكون لها تأثيرات متعددة على قضايا محورية فإذا بكل هذه القضايا تتغير تعريفاتها وتصبح حالات أخرى. وفي التقدير أن الأوضاع في سوريا لها خطوط تماس مع القضية الإيرانية والأخرى الخاصة بالصراع العربي - الإسرائيلي بل بما يجري أو لا يجري في الربيع العربي، ومن يدري فقد يؤثر ذلك في العراق ولبنان والأردن، وكل الجوار الجغرافي الذي يحيط بالدولة السورية. التكلفة هنا قد تكون عالية، ولكن ربما يزيد عليها في التكلفة ترك الطبيعة لكي تأخذ مجراها، وعلى كل الأحوال فإن حسابات التكاليف لها أهلها، ولم يكن ذلك مهمة من كانوا في الربع الخالي على أية حال.