هل تتحول «درسيم» إلى فرصة للمصالحة بين تركيا وماضيها؟

TT

فتيل التفجير أشعله الدبلوماسي المخضرم والنائب عن حزب الشعب الجمهوري المعارض أونور أويمان قبل أشهر حين برر الحملات العسكرية التي ينفذها الجيش في مناطق جنوب شرقي تركيا وشمال العراق ضد مواقع حزب العمال الكردستاني متسائلا: «ألم تبك الأمهات في (شنقلة) و(درسيم) أكثر من مرة.. هل لأنها ستبكي ستتراجع الدولة عن القيام بواجباتها لحماية هيبتها ونفوذها؟».

وعندها عادت الروح إلى جبهات درسيم مجددا وكأننا في أواخر الثلاثينات عندما تمرد رجال الإقطاع والعشائر في تلك المنطقة على السلطة ورفضوا دفع الجزية وهاجموا الأبنية والمؤسسات الرسمية وطردوا الجنود والموظفين معلنين العصيان على الدولة ومحاولات تتريكهم.

حكاية درسيم بدأت عام 1936 وانتهت عام 1938 في عهد أتاتورك وحزب الشعب الجمهوري الحاكم.. بدأت بتمرد غالبية الأكراد العلويين المنتشرين في تلك المناطق، وانتهت بتعليق مشانق الزعامات وقتل أكثر من 14 ألفا بين رجل وامرأة وطفل، وتشريد ودمج آلاف الأسر في مناطق غرب تركيا، في حملة مدروسة كانت رسالة كافية لمن يفكر في الاعتراض أو التمرد أو التطاول على مشروع الجمهورية التركية الحديثة.

كان اسمها «درسيم» فتحول إلى «تونش إلي».. «اليد الفولاذية» تيمنا بالاسم الحركي للعملية التي توقفت بعض التقارير العسكرية عند نجاحها الكبير في سحق المتمردين وكسب الكثير من «الغنائم» وكأن الجنود حاربوا هناك جيشا أجنبيا كبدوه نكسة وهزيمة لا تنسى. البعض في تركيا يتساءل: لو كانت أحداث درسيم هددت وحدة البلاد وأمنها واستقرارها واستدعت تصفية الآلاف، فلماذا علقت مشانق الزعامات وحدها في ثورة الشيخ سعيد في منتصف العشرينات وصدر العفو العام عن آلاف المنتفضين في مدن جنوب شرقي تركيا؟ البعض يريد أن يعرف اليوم لماذا تمت تصفية هؤلاء على هذا النحو؛ هل لأنهم تمردوا على الدولة الحديثة حقا؟ أم لأنهم علويون؟ أم علويون من أصل كردي؟

رجب طيب أردوغان كعادته فاجأ الجميع عند مسارعته للاعتذار باسم الدولة التركية على ما ارتكب من أعمال قتل ضد سكان تلك المناطق ومن حملات نفي وإبعاد، مذكرا بأن على الدولة أن تتحمل مسؤولية الإيجابيات والسلبيات في تاريخها، لكنه لم ينس دعوة حزب الشعب الجمهوري ورئيسه كمال كليشدار أوغلو للاعتذار هو الآخر كون حزبه هو الذي كان يقود البلاد في تلك الحقبة وهو الذي يتحمل مباشرة مسؤولية إصدار الأوامر لتنفيذ هذه العمليات. وهذا ما أغضب كليشدار أوغلو ابن درسيم نفسها ودفعه للرد على أردوغان قائلا إنه «لا خبز لك هناك» في تلك المنطقة التي تعطي غالبية أصواتها ومنذ عقود لليسار التركي، داعيا الحكومة لفتح الأرشيف الرسمي ووضعه في تصرف الجميع للاطلاع على تفاصيل ما جرى.

أردوغان أعطى كثيرين بمناورته السياسية هذه فرصة التحرك للمطالبة بالكشف عما تعرضوا له في التاريخ الحديث للجمهورية الأتاتوركية العلمانية؛ وفي مقدمتهم الأقلية الأرثوذكسية التي تطالب باسترداد دور عبادتها وفتح أبوابها، والأقلية اليهودية التي تعرضت في أواخر الأربعينات إلى قانون الضرائب المجحفة الذي عرضها للنفي والتشرد، وبعض السريان الأتراك الذين يرددون أنهم هم أيضا كانوا أمام حملة تصفيات ومحو، هذا إلى جانب كثير من الحوادث التي جرت في سيواس وقهرمان مرش وديار بكر قبل الانقلاب العسكري الذي قاده كنعان افرين عام 1980 وبعده وتحميله مسؤولية الآلاف من أعمال القتل والتصفيات والتعذيب في السجون والمعتقلات.

هل تمضي تركيا رجب طيب أردوغان في فتح الملفات والدفاتر القديمة التي تطاردها في أكثر من مكان بوصفها عبئا تاريخيا لا يسقط عن كاهلها؟ أم إن بعض القوى في دولة العمق ستدخل مرة أخرى على الخط لتذكر بخطوطها الحمراء التي لن يسمح لأحد بتجاوزها؛ وفي مقدمتها اسم وشخصية وسياسات المؤسس أتاتورك الذي حاول بعض السياسيين والإعلاميين التذكير بأن حادثة درسيم وقعت في عهده وأنه كان يعرف بجميع تفاصيلها فكيف يكون بعيدا عن مأساة من هذا النوع تقع ويتابع حتى النهاية تفاصيل مسألة لواء إسكندرون التي جرت في الفترة نفسها؟

أول بوادر المطالبة بتصفية الحسابات مع الجرح العميق الذي طمر بالتراب لكنه ما زال ينزف، كانت دعوة أحد نواب «العدالة والتنمية» وأقرب مستشاري أردوغان، محمد متينر لاستبدال اسم آخر باسم مطار «صبيحة غوكشان»، فهي رغم كونها أول سيدة تقود طائرة حربية في تركيا، فإنها حملت، برأيه، أيضا لقب أول سيدة شاركت في العمليات الجوية الهجومية التي استهدفت المدنيين الأبرياء في درسيم وقتها.