الفلمنكو العربي

TT

إنني من المفتونين بالموسيقى الإسبانية، لا سيما موسيقى الفلمنكو الغجرية. ولعل افتتاني بها يعود لتأثرها بتراثنا. وقد قدمت من «البي بي سي» سلسلة من الأحاديث عن التأثير العربي على الموسيقى الإسبانية الذي أعطانا هذا المزيج الساحر. فمن يبحث عن حوار الحضارات ولقاء الشرق بالغرب عليه أن يستمع إلى موسيقى الفلمنكو، لا سيما النوع المعروف بالكونتو خوندو (النغم الجليل) الذي يرجع إلى أيام العرب في الأندلس. بالطبع ترتبط هذه الموسيقى بالرقص الساحر والمرغوب عالميا، رقص الفلمنكو. ترقصه المرأة الغجرية الأندلسية (والرجل أيضا) لتعبر فيه عن معاناة الحياة وشظف العيش والطغيان الذكوري ونحو ذلك من آلام المرأة، ثم تحديها لسلطان الرجل واعتدادها بنفسها. عندما تنظر في وجه الراقصة وهي ترقص الفلمنكو ترى فيه أروع صورة للعذاب والغضب.

بتدفق عوائد النفط وتكدس أمواله بيد العرب، أسرع الغربيون لانتزاع حصة منه. تجار السلاح يقنعوننا بضرورة التسلح وشراء أسلحتهم. الفنانون بإنتاج ما يرضي ذوقنا، ومن ذلك اللوحات الزيتية عن الخيول والفروسية ونساء الحريم المغريات. وظهرت في الموسيقى شتى المحاولات لاستيحاء تراث المقام العربي. بالطبع إسبانيا خير ميدان لمثل هذا التجاوب. ولما كانت موسيقى الفلمنكو متأثرة بالموسيقى التي خلفها العرب في الأندلس، وعلموا الإسبان الأندلسيين عليها، فقد أصبح من المنطقي أن تجري محاولات للرجوع بالفلمنكو إلى أمه العربية، وأطلقوا عليه اسم الفلمنكو العربي. رأيت الكثير من هذه المحاولات، لا سيما في ميدان الرقص، الذي شاركت فيه بولا فلورس. يؤسفني أن أقول إن معظمها كانت مزعجة ومثبطة ورخيصة. العجيب أن المرأة الأندلسية الإسبانية كانت صادقة في تعبيرها عن معاناة المرأة وآلامها وتتحدى الرجل في غنائها ورقصها، في حين أن شقيقتها في الشرق راحت تعبر عن خضوعها للرجل واستجدائها لمحبته وخدمته باستعراض جسمها، مما نعرفه فيما نسميه بـ«هز البطن». وتعتز راقصة الفلمنكو بسترها وثوبها الطويل الذي يغطي جسمها من كتفيها حتى كعبي قدميها. قلما تكشف عن أي شيء من جسمها أو رجليها. تفعل الراقصة الشرقية عندنا عكس ذلك. كل حركة تقوم بها راقصة الفلمنكو تعبر عن الغضب والأنفة، في حين نجد الراقصة الشرقية تشي في كل حركة بعكس ذلك.

نحن أساتذة في مسخ أي شيء. انظروا لما فعلناه بالديمقراطية والاشتراكية. وانتظروا قليلا لتروا ما سنفعله بالربيع العربي. والفلمنكو العربي هو مسخ مريع للفلمنكو الأندلسي الأصيل وجره لإرضاء النوازع الغريزية الفجة في الرجل.

ولكن هذا الحوار الفني الراقص لم يكن من جهة واحدة. ظهر بيننا أيضا من حاولوا اقتباس الفلمنكو والعزف على القيثار. ظهرت في سلطنة عمان مجموعة من الموسيقيين الشباب مثل البلوشي وأسعد وزهير راحوا يستعملون القيثار ويعزفون مقطوعات مستوحاة من الموسيقى الغجرية الإسبانية. لا أملك غير أن أحييهم على هذه المحاولة الجدية.