عبد السلام في البيداء

TT

الفصل الغامض الأخير لا يزال عبد الله السنوسي. بعض أعضاء الحكومة يؤكدون أنه اعتقل، لكن لا يمكن نقله إلى طرابلس خوفا من الانتقام القبلي. وهذا كلام يشبه القول إن الغارة الأطلسية أصابت سيف القذافي في أصابع يده اليمنى ولم تبلغ - مثلا - الرسغ. هذه سربلة المنتصر الذي لم يصدق أنه قبض على الأوزة الذهبية: الرجل الذي يملك عناوين الحسابات، وأسماء الشركاء، ونسخ (غير المكتوبة) من الأوامر التي أعطاها القائد إلى عديله وشريكه في الحكم، زوج شقيقة صفية فركاش. ولا مؤهلات أخرى سوى وحشية البطش.

لم يثبت السنوسي حنوه على أفراد العائلة، بل همجيته على الليبيين. هكذا تقدم في الرتب وحل في المرتبة الثانية بعد عديله. في الماضي كان «الرجل الثاني» هو الرائد عبد السلام جلود، الذي كلف بمطاردة «الكلاب الضالة». لكن يبدو أن رائد تلك الكتيبة أظهر شيئا من المشاعر شبه الإنسانية. وكان هذا كافيا، فصار العديل هو الرجل الثاني في انتظار أن يبلغ سيف سن القبض على ليبيا. وأوكلت إليه مهمة تدريب سيف وتأهيله وتلقينه أخلاقيات الأب: كلاب ضالة، ولعق أحذية، وتلك الحكمة المأثورة: طز.

لم يعلمه الشجاعة. عندما وصل مطاردوه إليه قال: «اسمي عبد السلام. أنا راعي إبل». الأرعن بالوراثة كان خلف مقود سيارة رباعية من النوع القاهر للرمل. لكن كما وقع ابنا صدام حسين في أيدي الأميركيين بسبب وشاية من قريب، وقع الراعي عبد السلام بسبب وشاية من الطوارق. ظل يشتري إلى أن جاء من يدفع ثمنا أعلى، فباعوه.

مأساة سيف القذافي في بداياته لا في نهايته. ظن أن في إمكانه أن يطور نظاما قائما على الرعونة والفراغ والهمجية الفردية. حاول أن يكون مختلفا عن مجموعة من الأشقاء الذين لا يصلحون إلا لأدوار في فيلم رعب مخيف. اختار أن يكون الوحيد في العائلة الذي يحمل صفة العلم وراية الإنسانية. ولكن كيف يمكن أن يتم ذلك ومن حوله معمر أبو منيار وعبد الله السنوسي؟ ماذا يفعل المرء بشهادة دكتوراه، مزيفة أو حقيقية، عندما يصل بها إلى باب العزيزية؟

صاحب الدكتوراه في العلوم السياسية فاته أن يرى ما رآه أطفال العالم. لقد انتهى عصر التهريج والشر.. انتهى عصر الفارسات السمراوات وقباحة مشهد بعضهن من حوله وهن حاملات.

عبد السلام، راعي إبل!.. كان سيف يباهي بركوب الخيل في مزرعته الكبرى، التي كان يتدبر أحصنتها تجار من لبنان. لم تكن تلك العلاقة الوحيدة مع أفراد العائلة. كانت هناك أيضا لبنانية زوجة المحروس هانيبال، الذي من أجله دعا قائد ثورة الفاتح إلى الجهاد على سويسرا، وإلى تقسيمها كما كانت من قبل. وهو لم يفته يوما القول «أنا كدارس للتاريخ». وقد ظهرت معرفته بالتاريخ ونتائج دراسته على مدى أربعين عاما. لكن ذروة تلك الخبرة بانت وهو يخرج من عبارة حجرية قائلا لمهاجميه: «أنا معمر». أما ابنه، الأكثر ذكاء، فقال: «أنا عبد السلام.. راعي إبل». ضبطوا صاحب العيس في البيداء.