«غارة الأطلسي» تشجع باكستان على فك الارتباط مع أميركا!

TT

مساء الاثنين الماضي ,وفي حديثه إلى القناة الثانية البريطانية , لم يستطع الجنرال مارتن ديمبسي القائد الأعلى الجديد للقوات المسلحة الأميركية أن يعطي السبب الذي دفع بطائرات الأطلسي للإغارة على نقطتي التفتيش الباكستانيتين في منطقة «وكالة مهمند» حيث قتل 28 جنديا. ترك الأمر للتحقيق, لكنه في الحديث أشار إلى أن الجيش النظامي عندما يقاتل شبكات إرهابية ,يضطر إلى اعتماد طرق قتال الشبكات نفسها. ثم أشاد بقائد الجيش الباكستاني الجنرال اشفق برويز قياني «الذي أعرفه منذ عشرين سنة».

في مبدأ الربح والخسارة تلك الغارة كانت ضربة قوية للعلاقات الأميركية - الباكستانية وليست لمصلحة أميركا.

الإجراءات التي اتخذتها باكستان لم تصل إلى حد إعلانها إنهاء مشاركتها في الحرب التي تقودها أميركا في أفغانستان ,لكن إغلاقها طرق عبور إمدادات الأطلسي عبر أراضيها سيؤثر لاحقا على عمليات الأطلسي في أفغانستان, لأن القيادة الأطلسية - الأميركية وفرت احتياطيا من المخزون قد يكفيها لأسابيع ,وإذا قررت قيادة هذه القوات الاعتماد على طرق العبور لشبكة التوزيع الشمالية ,فإنها تحتاج إلى تعاون روسيا. وهنا قد يبدأ الابتزاز الحقيقي. (السفير الروسي لدى الأطلسي لمح مساء الاثنين الماضي إلى إمكانية إغلاق تلك الطرق).

الأسبوع المقبل ستعلن الحكومة الباكستانية موقفها من العلاقة مع أميركا والأطلسي ,والقوات الدولية للمساعدة الأمنية في أفغانستان (إيساف) مما يعني أن مستقبل الحرب معلق بخيط رفيع.

وبسبب التوتر القائم بين واشنطن وإسلام آباد, فليس في واشنطن حاليا شخصية تحمل «مفتاح تزييت» العلاقة مع إسلام آباد, فمدير وكالة الاستخبارات المركزية دايفيد بترايوس لا يتمتع بشعبية تذكر في إسلام آباد. كما أن باكستان لم تشعر براحة في التعامل مع سلفه الذي صار الآن وزيرا للدفاع ليون بانيتا، أما وزيرة الخارجية هيلاري كلينتون فالجنرالات الباكستانيون يحترمونها فقط, ثم إن الرئيس باراك أوباما لم يبذل أي جهد لإقامة علاقة شخصية مع أي زعيم باكستاني, كان يراهن على أن الهند ستساعده في «معركته» مع باكستان فأقام علاقة صداقة مع رئيس وزرائها مانموهان سينغ.

إنها حالة مستغربة ألا يكون مسؤول أميركي قادرا على كسب ثقة إسلام آباد في وقت هناك أكثر من 100 ألف جندي أميركي ينتشرون على الجبال الأفغانية المتشابكة في المنطقة المجاورة لباكستان ,حيث الحدود بين البلدين غير واضحة , وهذا ما تحدث عنه مساء الاثنين الجنرال مارتن ديمبسي. ثم أليس مستغربا أيضا, أن باكستان تبدو هي الأخرى غير مهتمة الآن ب الحوار مع إدارة أوباما, فهي قررت مقاطعة مؤتمر بون الثاني الذي سيعقد يوم غد ليبحث مستقبل أفغانستان , وهذا ما يجب أن يقلق واشنطن التي كما صار معروفا من خلال التجربة الإيرانية أن لا رد لديها لهذا النوع من التحدي الاستراتيجي.

الوضع الإقليمي يصب حاليا في مصلحة باكستان. فهي من خلال مطالبتها الولايات المتحدة بإخلاء قاعدة «شمسي» الجوية خلال 15 يوما ,تعبر عن تغيير في موقفها بشأن هجمات الطائرات من دون طيار (الدرونز) التي كانت تنطلق من القاعدة ,والمعلومات تقول إن باكستان تعزز دفاعها الجوي على الحدود مع أفغانستان.

بالنسبة إلى اعتماد الأطلسي على التعاون الروسي ,موسكو الآن متوترة من سياسات الولايات المتحدة. تدخل الأطلسي في ليبيا عمق غضب روسيا من عدم جدية أميركا في اعتبارها شريكا على قدم المساواة, ثم هناك ضغط واشنطن لتغيير النظام في سوريا, وعودة الظهور الأميركي والأطلسي في منطقة البحر الأسود، واستمرار نشر نظام الصواريخ الدفاعية الأميركية والإصرار الأميركي على إقامة قواعد عسكرية في أفغانستان، ثم هناك القلق الروسي من «طريق الحرير الجديد» والاندفاع الأميركي داخل آسيا الوسطى. كما أن واشنطن لم تستطع أن تخفي انزعاجها من احتمال عودة فلاديمير بوتين إلى الرئاسة الروسية في شهرمارس (آذار) المقبل.

في المؤتمر الذي عقد في اسطنبول أوائل الشهر الماضي، حول أفغانستان , وقفت باكستان إلى جانب روسيا والصين وإيران، وعارضت إقامة قواعد عسكرية أميركية بعد عام 2014 في أفغانستان.

وإعلان أوباما خلال زيارته إلى أستراليا أخيرا, عن «القرن الأميركي في المحيط الهادئ» جعل من باكستان شريكا في غاية الأهمية بالنسبة إلى الصين، ومن غير المستبعد أن تشجع روسيا وإيران أيضا باكستان على أن تكون مستقلة باستراتيجيتها , فكل هذه الدول تعارض نشر نظام الصواريخ الدفاعية الأميركية فوق جبال هندوكوش.

بعض الأصوات الأميركية انتقد تغاضي واشنطن عن محاسبة باكستان على الهجــوم الذي تعرضــت له السفــارة الأميركية في كابــل (22 سبتمبـر / أيلول الماضي) من قبل شبكة حقاني المدعومة من إسلام آباد, فوجدت نفسها الآن في موقف دفاعي بعد غارة ليل الجمعة. ودعت هذه الأصوات إلى تهديد باكستان بأنها ستتمزق إذا لم تستوعب الطلبات الأميركية. وبرأيها فإن الهدف الاستراتيجي الأميركي في المنطقة هو القضاء على الإرهابيين الإسلاميين «وهذا يشكل تهديدا وجوديا على الدولة الباكستانية». وترى هذه الأصوات أن العمق الاستراتيجي الباكستاني يتحقق بنشر نفوذها عبر دعم الحركات الإسلامية المتطرفة في أفغانستان وأيضا في كشمير وعمليات إرهابية في الهند.

لتحقيق هذا التهديد ,تحتاج واشنطن إلى تجاوب الهند ,وهذا ليس متوفرا, لأن الهند لا تثق بإدارة أوباما كي تغامر بالدفاع عن المصالح الأميركية ,ثم إنها لا تريد توتير علاقاتها مع الصين ,خصوصا أن إدارة أوباما اعتمدت سياسة فك الارتباط.

تعترف الأصوات الأميركية الرافضة للانصياع للابتزاز الباكستاني، بأن للصين مصلحة في الحد من القوة الأميركية. لكنها تضيف أن للصين مصلحة في إجبار باكستان على اتخاذ إجراءات مشددة ضد الإسلاميين الإرهابيين، إذ لديها 100 ألف من المسلمين الاويغور ويطالبون بالانفصال. ثم إنها اشتكت سابقا من أن الاستخبارات الباكستانية تدرب إرهابيين من الاويغور للتسلل إلى الصين.

بعد اغتيال أسامة بن لادن ,نقل السفير الباكستاني في واشنطن حسين حقاني رسالة سرية من الرئيس الباكستاني آصف علي زرداري لمساعدته على التخلص من المتشددين في أجهزته الأمنية, واشنطن رفضت أو تجاهلت الطلب, وعندما حاول حقاني أن ينفي الأمر، أكد رئيس الأركان (الذي كان على وشك مغادرته منصبه) الأدميرال مايكل مولن تسلمه هذه الرسالة وهذا الطلب ,فأدى ذلك إلى استقالة حقاني.

الأسبوع الماضي ,وفي نقاش حول الأمن القومي الأميركي قال المرشح الجمهوري للرئاسة ريك سانتوروم: «باكستان يجب أن تكون دولة صديقة ,لأنها تملك السلاح النووي. فإذا تفتت فإن السلاح النووي قد يصل إلى أيدي الإرهابيين»...

الأصوات الأميركية التي تطالب بعدم الخضوع للابتزاز الباكستاني تدعو إلى تشجيع الحركات الانفصالية داخل باكستان (الباشتون والبلوش) ,لتحجيمها أكثر بعد انفصال بنغلادش. أما بالنسبة إلى السلاح النووي ,فترى أن أفضل حل, هو تحريك القوات الأميركية المكلفة بحماية المنشآت النووية الباكستانية، لأخذ السلاح النووي بعيدا. وكما كتب جيفري غولدبرغ ومارك امبندر في مجلة «أتلانتيك»، فإن الصين لن تعترض إذا نشرت أميركا قواتها لتأمين الأسلحة النووية الباكستانية , لأنه إذا نجح الإرهابيون الإسلاميون في الحصول على الأسلحة النووية تلك، فإن الصين ستكون على رأس قائمة أهدافهم المستقبلية.

مع هذه التطورات الخطيرة، وقبل أن «تشرد» باكستان بعيدا جدا، ربما ستكون المهمة الأولى للجنرال مارتن ديمبسي زيارة إسلام آباد ولقاء «صديقه» الجنرال قياني. لكن مع طموحات أوباما حول «القرن الأميركي في المحيط الهادئ» ,ومع العودة المرتقبة لبوتين, فإن المنطقة هناك لن تعرف الهدوء قريبا. وقد تتفق الدول الكبرى المعنية على جعل أفغانستان وباكستان تغرقان في حروب أهلية, لأن محاولة تأمين الاستقرار في أفغانستان دفعت باكستان لابتزاز أميركا بزعزعته ,بينما اللااستقرار في أفغانستان يعني تصديره إلى باكستان.