السياسي والمثقف .. من يقود الآخر؟

TT

هل يمكن أن يكون هنالك إصلاح سياسي وآخر اقتصادي دون أن نبدأ بالإصلاح الثقافي والبناء الثقافي للمجتمع بعيدا عما هو سائد الآن من فوضى كبيرة في مجالات الثقافة والإعلام، وهذه الأجهزة هي المسؤولة عن رسم الصورة للمواطن العربي، وأحيانا كثيرة تتحكم بتصرفاته وتصرفات رجل السياسة والاقتصاد كذلك.

لا يمكن أن يستقيم الحديث عن إصلاح سياسي وإداري وديمقراطي دون الحديث عن إصلاح ثقافي يعيد النظر جذريا في المسلمات الثقافية المهيمنة التي لا يمكن أن يعاد النظر بتصوراتها بعد أن أخذت صفة الهيمنة في الوسط الثقافي العربي وباتت تمثل حالة ثابتة وغير قابلة للتغيير وتمسكها بالنمطية التي سادت لعقود طويلة.

ولا نقصد هنا النخب الثقافية التي هي الأخرى تعاني من فوضى الإعلام وتشتت القرار الثقافي وتداخله مع القرار السياسي، وهذا ما يؤشر لغياب واضح لدور النخب الثقافية في تكوين رؤى من شأنها أن تحقق الغاية من الثقافة، وبدل أن تكون السياسة في خدمة الثقافة تحولت إلى تسييس الثقافة وفق منظور الشمولية الذي كان سائدا في الحقبة الماضية في الكثير من الدول، حتى باتت الآن أكثر من قوة سياسية تحرك الشارع بعد أن كانت قوة سياسية واحدة تتحكم فيه قبل الربيع العربي، نجد اليوم أكثر من قوة في أكثر من مكان وجميعها تحاول بناء المجتمع وفق رؤيتها.

وإنما نريد أن نتحدث عن الثقافة المجتمعية التي تشكل نسق التفكير العام للمجتمع، وكيفية أن تكون الثقافة المجتمعية عاملا مؤثرا بالحياة السياسية وليست متأثرة بالسياسة كما يحصل في الكثير من المواقف بين الحين والآخر. ومشكلتنا نحن في العالم العربي أن النخب الثقافية ما زالت تمارس دورها التقليدي الذي رسمته لنفسها في حقب ماضية دون أن تفكر مليا بأن تعيد النظر في السائد من مفاهيم ثقافية لم تعد تصلح لهذا العصر الذي تتلاقح فيه الأفكار ولا تتصارع، ولكن الذي نراه اليوم في الشارع الثقافي العربي بصورة عامة، وشوارع ربيع العرب بصورة خاصة، أن ثمة تصارعا وليس تلاقحا، وهذا ما يجعلنا نستنتج أن عملية الإصلاح الشاملة يجب أن تبدأ من المثقف وصولا للسياسي، مرورا بكل مفاصل المجتمع الذي يحتاج بالفعل لأن يأخذ المثقف العربي دوره الطبيعي في صياغة مقاربات فكرية وقواسم مشتركة تجمع هذا التنوع في بوتقة واحدة من أجل صياغة هوية تجمع الكل في ظلها.

وهذه الهوية التي كان من المفترض أن تبرز كنتيجة ورد فعل طبيعي على الثقافة الشمولية الأحادية التي كانت سائدة في العقود الماضية، وجدنا أن النخب الثقافية مهما كانت اتجاهاتها قد مارست عملية تسقيط لبعضها البعض الآخر، محاولة جهد الإمكان أن ترسم صورة التصارع بدل صورة التلاقح، وهي بالتالي تنفذ مشروع السياسيين وتنجر إليه بطريقة أو بأخرى، بوعي أو من دون وعي، وهذا هو الخطر الذي علينا تجاوزه في هذه المرحلة بالذات، خاصة أن تعدد النخب السياسية في الوطن العربي نابع بالتأكيد من تعدد المرجعيات الثقافية التي كل منها ترى أنها فوق مستوى النقد، وبالتالي تحاول جهد الإمكان إلغاء الآخر ووضع مزيد من الخطوط الملونة أسوة بالتصريحات السياسية.

وهذا يعني أن السياسي حتى في ظل التعددية والديمقراطية بات هو من يصنع المثقف، ويسيره بالاتجاه الذي يريده، ويستخدمه بالشكل الذي يتناسب وبرنامجه وغاياته، لأن السياسي حتى في مرحلة ما بعد الربيع العربي سيظل يحمل بذور الشمولية والتفكير الأحادي بحكم الموروث الثقافي المتراكم لديه من الحقب الماضية التي تبيح له في أحيان كثيرة أن يستبيح أفكار الآخرين ويهمشها لصالح ما يحمله من أفكار، وهذا ما يقلص فرص بناء المجتمع الصحيح ويعيدنا للمربع الأول الذي يتمثل بإلغاء الآخر ومحاولة فرض الهيمنة في الساحة الثقافية، ومنها للفضاءات الأخرى، لهذا نجد أن أهم واجبات الحكومات الانتقالية أن تبدأ بعملية إصلاح ثقافي لكي تتمكن من أن تؤسس لإصلاح سياسي واقتصادي، وتبني مجتمعا جديدا لا يحمل من بذور الماضي ما يعكر صفو البناء.