الرشاد سبيل الخلاص

TT

تساءلت في مقال الأسبوع الماضي «هل إلى خلاص من سبيل» وتقديري أن السبيل إلى الخلاص هو الرشد في التفكير والتصرف. والرشد يعني أول ما يعنيه تحكيم العقل ومحاولة التحكم في الانفعال.

هذا هو سبيل الخلاص في المدى المتوسط والبعيد، ولكن ما هو سبيل الخلاص في الأوضاع الآنية التي تثير الرعب والحيرة والقلق عند كل من لديه إحساس بالمسؤولية.

أفهم جيدا أن من حق الشباب أن يثور وينفعل وأن يطلب تحقيق مطالبه اليوم قبل الغد ولكني لا أفهم إطلاقا أن تسمح جموع الشباب لقلة منهم أن يخربوا هذا البلد بأيديهم. وللأسف فإن هذا هو ما يحدث حاليا بوعي عند البعض وبغير وعي عند الكثيرين.

هل مصر تحتاج الآن إلى حشود غفيرة كل يوم في هذا الميدان أو ذلك الميدان أم تحتاج إلى عمل وإنتاج يوقف التدهور الاقتصادي الرهيب الذي يزداد خطورة ووعورة يوما بعد يوم؟ هل مصر تحتاج إلى إرسال رسالة إلى العالم تقول إن الأمن مضطرب وإن أهل البلد أنفسهم لا يأمنون على حياتهم ومن ثم فإنه من باب أولى لا تحضروا إلى مصر أيها الأجانب وأيها السائحون.. أم مصر تحتاج عكس ذلك إلى رسالة تقول للعالم إن مصر بلد آمن متحضر وإنه بلد فيه ثروة سياحية لا مثيل لها في أي بلد من بلاد العالم؟ إن مدينة واحدة في مصر اسمها «الأقصر» تضم على ضفتيها أكثر من ربع آثار العالم كما تقول منظمة اليونيسكو وليس كما نقول نحن المصريين.

وليست الأقصر وحدها وإنما كل ركن في مصر وكل ناحية فيها لعب التاريخ فيها دورا من الأدوار وترك فيها من الشواهد والآثار ما لا يسبقه في التاريخ سابق.

والسياحة الدينية وسياحة الاستشفاء والسواحل الجميلة الدافئة والناعمة كل هذه الثروة تضمها مصر، فهل يعي شباب مصر مدى الكنوز التي تعنيها هذه الثروة والتي تحتفظ بها لهم والتي يبددونها بما يفعلون الآن في هذا الميدان وذلك الميدان ويخيفون العالم من زيارة مصر والتردد عليها والسياحة فيها؟

هل ذلك يحتاج إلى عقل كبير حتى نفهمه أم أن ذلك من بديهيات الأمور؟

في هذه المرحلة نحتاج إلى أن نهدئ من انفعالاتنا وأن يسمع بعضنا لبعض وأن لا يستبد أحد برأيه وأن تكون بوصلتنا في التفكير وفي التصرف هي «مصر» ومصر وحدها.

نحن نحتاج في هذه المرحلة إلى « الحوار» أكثر مما نحتاج للهتاف والانفعال. إن الرفض لكل شيء ومحاولة تشويه كل إنسان ليس أمرا صعبا ولكنه بيقين أمر غير مسؤول.

لقد طرح اسم الدكتور كمال الجنزوري ليكون رئيسا لوزارة إنقاذ وطني. واختلف الناس حول الرجل.. هذا يؤيد وهذا يرفض. وهذا من حق الجماهير ولكن موقف الشباب في ميدان التحرير من هذه القضية هو موقف غير مفهوم ولا مبرر. إنهم يرفضون لمجرد الرفض. إنه رفض انفعال وليس رفضا عقلانيا.

أنا أعرف الدكتور كمال الجنزوري منذ سنين طويلة وأذكر بكل موضوعية وبكل أمانة المسؤولية أنه من أصلح الناس لكي يقود دفة الأمور في المرحلة الحالية وأنه من أقدر الناس على إيقاف التدهور في الأوضاع الاقتصادية بحكم خبرته ورؤيته.

والجنزوري رجل قوي الشخصية ولا أتصور أنه سيكون رئيس وزراء «ديكور» إنما سيكون رئيس وزراء بكل السلطات. كمال الجنزوري قادر على اتخاذ القرارات الحاسمة في الظروف الدقيقة التي تمر بها بلادنا. ولذلك فأنا أعجب من موقف الشباب الانفعالي من الرجل الذي لا يعرفونه حق المعرفة. كل ما يعرفونه أنه كان وزيرا وكان رئيسا للوزراء في عهد مبارك. ولكنهم لا يعرفون أنه رئيس الوزراء الوحيد في فترة مبارك كلها الذي صمم على أن يكون رئيسا للوزراء بالفعل وليس رئيسا لسكرتارية الرئيس كما كان غيره من رؤساء الوزارات في عهد مبارك وجمال مبارك وأحمد عز ذلك العهد الذي أهان مصر وأهل مصر.

أعطوا للرجل فرصة وهي بطبيعتها فرصة مؤقتة قصاراها انتهاء انتخابات البرلمان وانتخابات رئيس الجمهورية وذلك كله حسب التقديرات الحالية لن يزيد على سبعة أشهر وقد يقل عن ذلك إذا أخذ بما اقترحته من التعجيل بانتخابات رئاسة الجمهورية عقب الانتهاء من انتخابات مجلس الشعب مباشرة ودون انتظار لانتخابات مجلس الشورى أي بعد نحو شهرين وعندها يكون لدينا مجلس شعب منتخب ورئيس جمهورية منتخب عندئذ يتوجب أن تنتقل السلطة إلى من اختاره الشعب أي إلى السلطة المدنية التي تتحمل مسؤوليتها الصعبة في الفترة القادمة.

تهدئة الانفعال. الحوار. عدم الرفض لمجرد الرفض. إشعار العالم بأننا بلد أمن. كل هذه ضرورات إنقاذ المرحلة الراهنة القاسية التي تمر بها مصر.

أما على المدى المتوسط والطويل فإن الرشد السياسي يعني ما هو أكثر من ذلك. يعني أول ما يعنيه أن نعرف أن النظام الديمقراطي هو النظام الذي اهتدت إليه البشرية بعد تجارب عديدة وثورات عديدة واتجاهات فكرية متعددة وأن النظام الديمقراطي هو النظام الوحيد القادر على تصحيح نفسه من داخله ذلك أنه النظام الذي يقوم على أساس تداول السلطة وليس احتكارها وتداول السلطة يكون وفقا لإرادة الناس وفي ظل سيادة القانون.

الناس ينتخبون من يريدون لمجالسهم النيابية ومن يريدون لرئاسة الجمهورية في الأنظمة الجمهورية. والناس وممثلوهم هم الذين يحاسبون من اختاروهم ويراقبونهم ثم يغيرونهم إذا أرادوا في انتخابات قادمة. وهكذا يتم تداول السلطة برضا الناس من أجل تصحيح المسار بين الحين والحين.

الأنظمة الاستبدادية لا تتغير إلا «بكسرها» ولكن النظام الديمقراطي هو وحده القادر على تطوير نفسه وتغيير الحاكمين وفقا لإرادة الناس وفي آجال يحددها الدستور.

لا بد أن نؤمن بالنظام الديمقراطي على هذا النحو وبمقتضى هذا النظام فإننا سنتعلم من تجاربنا وأخطائنا. لا أحد معصوم من الخطأ. كل الشعوب تصيب وتخطئ وتصحح أخطاءها وتتعلم منها. هذه هي الديمقراطية التي تضمن التطور والتغير نحو الأفضل وفقا لما يريده الناس. الديمقراطية هي نتاج الحرية وهي حامية وحاضنة الحرية. والحرية شيء مختلف تماما عن الفوضى. والحرية مسؤولية. والفوضى هي انفلات من المسؤولية.

ومن الركائز الأساسية للنظام الديمقراطي أن يتجه التعليم في الدولة إلى تكوين العقل المبدع.. العقل الذي يفكر بعلم ومنطق ورؤية. إن العقل المتلقي للمعلومات والذي يستوعب هذه المعلومات أو يحفظها مطلوب ولكنه ليس هو العقل القادر على نقل الشعوب إلى الأمام وإلى الحضارة وإلى النضج. العقل المبدع.. العقل الناقد هو الذي يقدر على ذلك وهذا العقل المبدع الناقد هو ما تحتاج إليه الأمة العربية وتحتاج إليه مصر التي تعتبر قاعدة هذه الأمة.

الإحساس بالمسؤولية. ثقافة الحوار وقبول الآخر. النظام الديمقراطي. البحث العلمي وتكوين العقل المبدع الناقد هذه هي وسائل الخلاص.

وكلها ممكنة وكلها في أيدينا فتعالوا نتكاتف من أجل بقاء هذه الأمة التي قدمت للعالم فيضا ونورا في فترات كثيرة من فترات التاريخ.

كتبت هذا المقال قبل أن تبدأ الجولة الأولى من الانتخابات المصرية لمجلس الشعب فى اليومين السابقين. هذان اليومان - الاثنين والثلاثاء - أعادا لمصر كلها الأمل فى أن هذا الشعب العريق يعرف كيف يتحرك فى أوقات الأزمات لإنقاذ مصر من كبوتها. هذه الانتخابات هى أهم ثمرات ثورة 25 يناير. لقد أدرك الشعب أن إرادته ستكون مؤثرة ومحل اعتبار ولذلك أقبل هذا الإقبال المنقطع النظير بصرف النظر عن النتائج لأن الديمقراطية قادرة على إصلاح نفسها بعد ذلك. يبدو أننا بدأنا طريق الخلاص.

ملحوظة:

كتبت هذا المقال قبل أن تبدأ الجولة الأولى من الانتخابات المصرية لمجلس الشعب فى اليومين السابقين. هذان اليومان - الاثنين والثلاثاء - أعادا لمصر كلها الأمل فى أن هذا الشعب العريق يعرف كيف يتحرك فى أوقات الأزمات لإنقاذ مصر من كبوتها. هذه الانتخابات هى أهم ثمرات ثورة 25 يناير. لقد أدرك الشعب أن إرادته ستكون مؤثرة ومحل اعتبار ولذلك أقبل هذا الإقبال المنقطع النظير بصرف النظر عن النتائج لأن الديمقراطية قادرة على إصلاح نفسها بعد ذلك. يبدو أننا بدأنا طريق الخلاص.

والحمد لله.