حديث ملفق

TT

ونحن في الرمق الأخير من سنة «الربيع العربي»، كما وصفت، فقد بدأت الآن التحديات والمغامرات.

قيل الكثير الكثير، طيلة الأشهر الماضية، وعلى مدار اليوم، وروجت تلال هائلة من الإشاعات والأخبار، من تونس إلى اليمن، مرورا بليبيا ومصر وسوريا، وغيرها.

بداية من تونس، كانت حكاية الشرارة الأولى وهي إحراق «البوعزيزي» نفسه، بسبب صفعة شرطية تونسية له في مدينة سيدي بوزيد، وتبين لاحقا زيف هذه المعلومة، أو على الأقل تم التشكيك فيها بقوة، رغم عشرات بل مئات المقالات التي كتبت انطلاقا من صحة المعلومة، والتحليل النفسي والاجتماعي والسياسي.. إلخ.. وأغلب الظن أن أكثر هؤلاء لم يكلف نفسه عناء تصحيح روايته، بل قال ما قال ومضى..

ماذا عن الأخبار الأخرى؟

تتذكرون قصة شهادة سيف الإسلام القذافي من كلية لندن للدراسات الاقتصادية والسياسية، حيث قيل إن الشهادة قد «بيعت» لسيف الإسلام. وكتب أيضا الكثير من التحليلات والنكات حول هذا الأمر. وحسب «بي بي سي» البريطانية، فقد نفت كلية لندن للدراسات الاقتصادية على لسان مديرتها «جوديث ريس» أن تكون قد باعت لسيف الإسلام القذافي درجة الدكتوراه التي حصل عليها عام 2008.

وجاء نفي ريس ردا على النتائج التي توصل إليها تحقيق مستقل. ووجه التحقيق انتقادا شديدا للصلات التي كانت تربط الكلية بنظام القذافي، ولقبولها تبرعا بقيمة 1.5 مليون جنيه إسترليني (2.3 مليون دولار) من مؤسسة القذافي العالمية التي كان يديرها سيف الإسلام. وقالت ريس إن التحقيق لم يعثر على أي أدلة تثبت أن درجة الدكتوراه التي منحت إلى سيف الإسلام عام 2008 قد بيعت له. وحسبما نرى هنا فهو تفصيل يحمل مصداقيته الداخلية، حيث قرع التقرير هذا الصرح الأكاديمي المرموق على دخوله في موطن الشبهات المالية، لكنه لم يجد دليلا على تهمة «بيع» الشهادة.

حسنا، هل سيغير هذا من «القصة» لدى من روجها وتلقفها طيلة هذا العام؟

ماذا عن الأخبار الأخرى في غير ليبيا التي تم «استهلاكها» في ضجيج ومروج وحفر الربيع العربي؟

يقال إن أولى الضحايا في الحروب هي الحقيقة نفسها. وهي أيضا أولى الضحايا في الثورات، فكل ثورة حتى تستمر تحتاج إلى بناء خيالها الخاص، وبطولاتها الفردية، ودمها المقدس، وشهدائها الأبطال، وبالطبع أشرارها الخلص الذين تواجههم هذه الثورة، وهنا لا تصبح الدقة ولا المصداقية هي المطلوبة، بل مجرد ترويج هذا الخيال وهذه الصور لأغراض تعبوية، ففي الحرب والحب كل شيء مباح كما يقال.

ومما يروى من شعر حكيم العراق الراحل وشاعره اللاذع معروف الرصافي، أن أحد الأعيان شوهد وهو يوزع الصدقات في الليل من دون أن يشعر به أحد، في حين أن هذا الرجل كان في نشاط ليلي آخر، فتعجب الرصافي وقال:

وما كتب التاريخ في جل ما روت

لقرائها إلا حديث ملفق

نظرنا بأمر الحاضرين فرابنا

فكيف بأمر الغابرين نصدّق؟!

[email protected]