التحدي التالي أمام متظاهري الشرق الأوسط

TT

في الأيام الأولى من الثورات العربية، بدا كما لو أن هاتفا ذكيا ربما يكون كافيا لتقويض سلطة الحكومات القمعية. بالفعل، بإمكان هذه الأجهزة الصغيرة حشد جموع من البشر، لكن الأمر الأكثر أهمية هو أن كاميراتها يمكنها توثيق أعمال العنف التي توظفها الأنظمة المستبدة لقمع شعوبها.

لقد قلبت الهواتف الذكية الأوضاع رأسا على عقب. فقد بات الحكام وزبانيتهم فجأة معرضين لخطر الخضوع لمحاكمة، مثل حسني مبارك في مصر، أو المطاردة والقتل، مثل معمر القذافي في ليبيا.

لكن ماذا عن قوة الجماهير نفسهم، الملايين التي تحدت رجال الشرطة بكاميرات الهواتف الجوالة كوسيلة حماية؟ ما الذي يمكن أن يحمي الفرد من المتظاهرين المرددين للهتافات في الشوارع أو الأحزاب الدينية العقائدية في البرلمان؟ هناك طغيان واستبداد من جانب الأغلبية بالمثل.

ها هو التحدي التالي الذي يواجه الحركات الاحتجاجية الممتدة من تونس إلى سوريا، وفي نهاية المطاف، ستمتد حتما، إلى دول قمعية غير عربية، مثل إيران والصين. بمجرد إطاحتهم بالبوليس السري، يحتاج الثوار إلى صياغة دساتير تؤكد على حقوق الفرد.

لقد أنهت أميركا ثورتها بوضع دستور جاءت التعديلات العشرة الأولى فيه لتحمي الحريات الأساسية، وهي حرية التعبير والحرية الدينية وحرية التجمع، إلى جانب سيادة القانون. وأطلقنا عليه اسم «وثيقة الحقوق»، نسبة إلى وثيقة الحقوق البريطانية الصادرة عام 1689، «معلنة عن حقوق وحريات المواطنين». وقد تم ترسيخ هذا البيان الرسمي، بالتبعية، في الميثاق الأعظم للحريات (الماجنا كارتا).

لقد سئم العرب على نحو مفهوم من فكرة أن تملى عليهم توجيهات من قبل الأنغلوساكسون، خاصة بعد أن حاول الأميركيون فرض الديمقراطية في العراق، على نحو أسفر عن عواقب وخيمة. «ستكون كثير من نصائحنا سيئة، ومعظمها سيكون غير ملائم».. هكذا يحذر ناثان براون، الأستاذ بجامعة جورج واشنطن الذي درس الدساتير العربية، في مقال نشر مؤخرا تحت عنوان «أيها الأميركيون.. أبعدوا أقلامكم».

يتمثل أحد الدروس المستفادة بالنسبة إلى «الآباء المؤسسين» العرب في أن الدستور مجرد بداية. لقد نادت الثورة الفرنسية في عام 1789 بـ«حقوق الإنسان»، لكن الفرنسيين سرعان ما تجاهلوا هذا، مع سقوطهم في مستنقع الرعب والديكتاتورية. وهنا، تكمن نقطة أساسية متعلقة بصياغة الدستور. فالأمر لا يتعلق بالوثيقة نفسها بقدر ما يتعلق بكيفية تفعيلها. يشير براون إلى أن كثيرا من الأنظمة الديكتاتورية العربية لديها دساتير مكتوبة بلغة بلاغية رائعة عن الحقوق والحريات. غير أن هذا لم يمنعها من أن تصبح دولا بوليسية في واقع الأمر.

أحد النماذج التي تثير اهتمام محمد البرادعي، أحد عرابي ثورة ميدان التحرير، هو الدستور الألماني لعام 1949، الذي جسد ما تعلمه الشعب الألماني من الرايخ الثالث، ربما أكثر الأمثلة التاريخية إزعاجا لسحق الأغلبية حق الفرد. وتبدأ الوثيقة بعبارة «كرامة الإنسان مصونة»، ويعد قانونا لحماية تلك الكرامة.

ويقول البرادعي الذي استشهد بدساتير البرازيل وجنوب أفريقيا: «في ضوء الاستقطاب المتزايد في مصر، أعتقد أننا نحتاج في الدستور الجديد إلى قانون لحقوق لا تنتهك. هذا مهم، لكي نضمن لكل المصريين أن الطريق إلى الديمقراطية وجد هنا ليبقى».

من النقاط الإرشادية المفيدة بالنسبة لواضعي الدساتير العرب هي الفصل الخاص بالحكم في تقرير التنمية البشرية العربية لعام 2002، فقد كانت هذه الوثيقة الرائعة التي وضعت برعاية مشروع التنمية التابع للأمم المتحدة، بدعوتها الجريئة إلى حكومة منفتحة متسامحة وسريعة الاستجابة، إحدى نقاط البدء لـ«الربيع العربي». وأشار التقرير إلى أن الكلمة العربية «حكم» تعني «القضاء»، وأن الحاكم قاض بين الناس. وهو ما يتسق مع الثقافة المتأصلة في التشريع الإسلامي.

ويقول أحد سطور تقرير عام 2002 النفيسة: «لم يعد ممكنا تأجيل إقامة دولة ديمقراطية تعددية في العالم العربي».

وقد قام قادة المجلس العسكري المصري مؤخرا بمحاولة خرقاء للتلاعب بالدستور الجديد لحماية الامتيازات العسكرية الخاصة، لكن هذا دفع حشود المتظاهرين إلى العودة مرة أخرى إلى «التحرير».

وفي شأن الدين، من المرجح أن يحافظ الدستور المصري الجديد على بعض المواد القديمة، التي تنص على أن الشريعة الإسلامية هي «المصدر الرئيسي للتشريع»، ولكن مع تقديم قاعدة أوسع للمجتمع المدني في الوقت ذاته. ويدعم مثل هذا التوجه الإخوان المسلمون، وكما هو الحال مع أي نص دستوري، سيكون السؤال هو: «كيف سيتم تفسير ذلك؟».

يجب أن تكون الدساتير الناجحة وثائق حية، وينبغي أن تتضمن لائحة الحقوق الأساسية للمواطنين، ولكن عليها أيضا أن تحدد الكيفية التي سيتم من خلالها حماية هذه الضمانات، فالدستور لا معنى له بدون محكمة لتطبيق وعوده، وهذه المحكمة، بدورها، يمكن هدمها ما لم يكن المواطنون يقظون.

وهذا يعيدنا إلى تلك الهواتف الجوالة، فاليوم كما لم يكن من قبل، يملك المواطنون هذه الأدوات لحماية حرياتهم. والثورة ستنقل على شاشات التلفزيون وكذلك نتائجها.

* خدمة «واشنطن بوست»