ماذا أخذنا من عبقرية الألمان؟

TT

التقليد سيئ وفيه الكثير من علامات الغباء، هذا إذا كان فرديا. أما إذا كان جماعيا فهو كارثي. أتذكر البدايات يوم قلدت من أعجبت بهم. جبران مثلا. وكان تقليدا مضحكا لكثرة ما هو فاقع. والأدب الروسي، وكان تقليدا فاضحا. وربما كنت أكثر بساطة عندما قلدت نفسي، لكنني لم أكن فاضحا أو مضحكا.

قلد الثوريون العرب والقوميون العرب، على مختلف وتفاوت اتجاهاتهم، الأفكار والآيديولوجيات التي عرفتها مخيمات لا تشبهنا ولا نشبهها على الإطلاق. قلد القوميون الألمان، ذلك الشعب الصناعي الفلسفي العامل. وقلدنا السوفيات وهم مجتمع ملحد كان أيام القياصرة قائما على العبودية. وجاء ميشال عفلق بالاشتراكية من مقاهي الفكر في الضفة اليسرى وسلمها إلى الريف.

لم تلحظ القومية المتأثرة بالنازية والفاشية الإيطالية أننا مجتمعات لم تعرف الطرقات بعد. وأن القومية العربية تنفع في طرد الفرنسيين والبريطانيين لكنها لا تعرف كيف تتسع لمكونات الأمة وأعراقها وروافدها القائمة منذ قبل التاريخ. ولذلك لم نبرع إلا في نقل الفظاظات، وأغفلنا التقدم والتطور. أدت سياسات التأميم إلى ضرب الفقراء بدل الأغنياء. طلبنا من الألمان، في مصر وسوريا والعراق وخصوصا في الجماهيرية، أن يعلمونا مراقبة الناس وقهرهم وإلغاء شعورهم بالكرامة الإنسانية، ورفضنا أن نستقبل منهم خبراء التصنيع والتعليم وشبكات الطرق والإسكان.

تلك هي النتائج التي وصلنا إليها بعد نصف قرن من الادعاء الفارغ والثقافة المضادة. كم ضحكت عندما قال معمر القذافي إنه قرأ في شبابه كتاب «اللامنتمي» لكولن ولسن، الذي قرأه المثقفون العرب في الستينات. فماذا يهم أن يقرأ «اللامنتمي» إذا لم يكن قد قرأ أحدا من الذين تناولهم ولسون. وكيف تؤدي قراءة كتاب في هذا المدى الإنساني إلى نتاج في مثل هذا التوحش.

وعندما اشتدت عليه الثورة في فبراير (شباط) الماضي لم يجد سوى الزعيم الصيني دنغ كسياو بنغ يستشهد به: «وحدة الصين كانت أهم من هؤلاء الناس في ساحة تين ان مين. لذلك أرسلت الدبابات تواجههم. أنا لا أمزح. سوف أفعل الشيء نفسه». مرة يظن أنه قبض على ثقافة كولن ولسون ومرة أنه صار في حجم الصين ودنغ الذي قلب وجودها من دولة مريضة بالمجاعة الأزلية إلى دولة تعول عليها أوروبا وأميركا في إنقاذهما. أتذكر كيف كنت أعتقد أنني سوف أصبح غريغوري بك بمجرد الدخول إلى أحد أفلامه بثمن تذكرة مخفضة لا أملك غيره.

أكثر من نصف قرن وخاطفو الإرادة العربية يقلدون رجالا لم يعرفوا سوى أسمائهم. هذا لا يقبل أن يكون أقل من نابليون، وهذا يدرس حركات لينين قبل إلقاء الخطاب، وأولئك لا يريدون من العبقرية الألمانية المذهلة سوى أن ترسل إليهم الأكثر إجراما في خبرة التعذيب. لم نطلب من الألمان سوى الذين لم نجرؤ على البوح بأسمائهم أو بماضيهم أو باختصاصاتهم. وعندما أراد معمر القذافي أن يعطي مثالا لم يجد أمامه سوى باني مجد الصين الحقيقي. لا الورقي ولا الدفتري. عاد تواضعه فقتله.