مكتبات تغني

TT

عندما أخذت مكتبات الحي اللاتيني تغلق أبوابها في السنوات الأخيرة، كان ذلك بمثابة خيبة شخصية. فكلما أغلقت مكتبة، حتى على الأرصفة، محت ذكريات وحقبة. وتحولت المكتبات السابقة إلى مطاعم هامبورغر. ومحل شعراء وفلاسفة فرنسا حلت صورة الكولونيل الأبيض الشعر الذي اخترع تتبيلة دجاج كنتاكي.. ومنظره الأبوي مريح، لكن حلول الدجاج مكان 400 عام من الفكر والأدب ليس مريحا على الإطلاق.

طالما حلمت نيويورك بأن تكون شيئا من باريس الثقافية. كانت تتطلع إلى فرنسا بشيء كثير من الإعجاب وعقدة النقص. لكن فيما كانت مكتبات الحي اللاتيني تسلم نفسها لمزارع الدجاج والبقر الأميركية، كانت مكتبات نيويورك تتحول إلى صروح جميلة. وكم كنت أفرح عندما أرى أما شابة تدفع عربة طفلها أمامها وتتفقد على الرفوف آخر إمتاعات ومؤانسات دور النشر، على قول أبي حيان التوحيدي.

يقيم أحدنا علاقة شخصية وجدانية مع مكتبته، لا تقام مع المطعم أو متجر الملابس. أما المشتغلون بهذا الفن الجميل، قراء أو كتابا، أو كليهما، فإنهم يشعرون أيضا بشيء من الخوف، كلما رأوا بيادر الحصاد تقل وطيور المواسم تهاجر. ولطالما حلمت بأن أرى في بيروت أو القاهرة مكتبة كمثل مكتبات نيويورك وواشنطن. ولطالما أحزنني أن تكون سمعة «مدبولي» و«الشروق» أكبر بكثير من حجمهما. وحلمنا، صديقي محمد العبيكان وأنا، بأن تقوم مثل هذه المكتبة في دبي، بحيث يقدم الشيخ محمد بن راشد المكان، وتقدم دار «العبيكان» الكتب، وأقدم أنا الشكر لهما. لكن مساعدي الشيخ محمد كانوا منهمكين آنذاك في مشاريع أكثر أهمية بكثير، علما بأن أحدها كان الترجمات الفائقة الأهمية.

ليست كل مكتبات أوروبا ترفع صورة كولونيل كنتاكي الشايب. أمتع ما حدث في لندن أن مبنى محلات «سمبسون»، الذي كان أكبر متجر للثياب في بيكاديللي، تحول بأدواره السبعة إلى فرع من مكتبات «ووترستون». يا للضياع الجميل، بين رفوف التاريخ ورفوف الكتب الحديثة التي لها رائحة الأرغفة الطازجة في فرن الجائعين، على غرار «حارة البياعين» في مسرحيات الأخوين رحباني.

أحمل معي ذكرى عاصي ومنصور إلى كل مكان، وهما العبقريان اللذان صنعا الأغنية من هموم الناس ووجدان الفنانين. كم كانت عظيمة عبقرية ذلك الجيل الذي حول أحلام البسطاء إلى ألحان ونغم. نشأوا في مكان حزين وحولوه إلى فضاء عذب. كم نفاخر بأننا أفقنا على سماع الشعر المغنى، يوم كان له عباقرة مثل سيد درويش ومحمد عبد الوهاب وعاصي ومنصور.. واحد يغني للفلاح، وواحد يغني للكرنك، وواحد يغني لبائعة البندورة التي ظلمها الشاويش.

والآن لبنان عاصي ومنصور وفيروز مصنع تفريخ كليبات، ونساء يغنين بثياب البحر أو ثياب النهر أو من دون ثياب، وعارضات أزياء يعرضن الأغاني. وعلى ما قال الساخر الراحل شوشو بلهجته البيروتية لإحدى المغنيات: «ولي، منين عما تغني؟». «بلي يسترك ستر»، الأخيرة قالها أبو العبد.