في تحرير.. «مفهوم التغيير»

TT

انتهى مقال الأسبوع الماضي بمطلب «تحرير مفهوم التغيير» الذي حصل إسراف في استعماله في الزمن الأخير.. ونحن - بوضوح - لا نحب استعمال كلمة «التغيير» في سياق المدح بإطلاق. ذلك أننا لا نحب موافقة ما هو سائد، ما دام هذا السائد قائما على غير علم وغير تثبت وتمحيص، فليس من العقل مجاراة ما هو سائد من مفردات ومفاهيم وأعراف بحجة أنه «سائد» فحسب. فهذه المجاراة السبهلل هي عادة عند السياسيين الانتهازيين، وهواية لدى الفنانين الذين يستمدون قيمتهم من الرأي العام المعجب بهم، والمصفق لهم.

وإنما نمسك عن استعمال كلمة «التغيير»، في سياق التبجيل المطلق، للأسباب الموضوعية التالية:

أولا: لأن مفردة «التغيير» في لغة العرب لا تعني الانتقال إلى ما هو أحسن بإطلاق واطراد. فقد يكون التغيير إلى الأسوأ. يقال: تغير وجه فلان حين سمع خبر كذا، أي اكتست سيماء وجهه بما غيرها عن وضعها الطبيعي الصافي المعروف.. وفي التنزيل: «ولبن لم يتغير طعمه»، أي بقي على لونه وطعمه الطبيعيين، ولم يطرأ عليه ما يفسده من عوامل التغيير.. وفي التنزيل أيضا: «ذلك بأن الله لم يك مغيرا نعمة أنعمها على قوم حتى يغيروا ما بأنفسهم».. والمعنى جد واضح وهو أن قوما كانوا في نعمة ورخاء وسعادة ثم غيروا ما بأنفسهم، بالكفر والمعاصي والظلم، فغير الله حالهم بنزع النعمة منهم. فهذا تغيير إلى الأسوأ، وإلى الخلف بكل توكيد.

ثانيا: لأننا نفضل كلمة «تجديد»، بل نحن منحازون إلى التجديد بلا تحفظ.

لماذا؟

1) لأن التجديد - في منهج الإسلام - إنما هو «سنة دورية»، بمعنى مباشرتها في حياة المسلمين كل مائة عام، وليس مرة واحدة في العمر. نعم.. سنة دورية بشّر بها نبي الإسلام - صلى الله عليه وآله وسلم - ودعا إليه فقال، فيما صح عنه: «إن الله يبعث لهذه الأمة على رأس كل مائة عام من يجدد لها دينها».

2) إن عدم التجديد يؤدي - لا محالة - إلى الجمود.. وهذا الجمود هو مقصلة العقل والفكر، ومقبرة المصلحة والمنفعة والتقدم الذي يتوجب أن يظل سقفه مفتوحا أبدا، في مختلف العصور.

3) لأن الجمود (ومن خصائصه: الخوف من الجديد) هو طريقة الكافرين، لا نهج المؤمنين.. فالجمود هو الذي حمل أصحابه على أن يكونوا حمرا هائجة راكضة: تخاف من حقائق الوحي الجديد: خوفها من الأسد!!: «فمالهم عن التذكرة معرضين. كأنهم حمر مستنفرة. فرت من قسورة». والجمود هو الذي جعل أصحابه يتصورون الدين الجديد وكأنه صواعق مادية تتهدد حياتهم ووجودهم: «صم بكم عمي فهم لا يرجعون. أو كصيب من السماء فيه ظلمات ورعد وبرق يجعلون أصابعهم في آذانهم من الصواعق حذر الموت والله محيط بالكافرين». والجمود هو الذي وضع أيدي أصحابه وأرجلهم وعقولهم في أغلال التقليد الصاد والراد لأي جديد: «وإذا قيل لهم تعالوا إلى ما أنزل الله وإلى الرسول قالوا حسبنا ما وجدنا عليه آباءنا أولو كان آباؤهم لا يعلمون شيئا ولا يهتدون».

على الضد من ذلك، كان المؤمنون الذين تفتحت عقولهم على حقائق الدين الجديد فآمنوا به. بعد تحررهم من أسر التقليد وأصفاد الجمود. ومن ثم قامت النهضة العقلانية التنويرية الكبرى في جزيرة العرب والتي امتدت بأنوارها الساطعة إلى العالم كله كما شهد بذلك أرنولد توينبي. وجون برنال. وهربرت ويلز. وبول كندي وغيرهم من عقلاء الغرب وأمنائه.

ثانيا: من معايير تحرير «مفهوم التغيير»، تحديد مجاله.. ومفاتح الموضوع - ها هنا - هي: ما الشيء المراد تغييره؟ ليس هناك عاقل راشد يقول بتغيير كل شيء باستمرار، بما في ذلك تغيير اسمه واسم أبيه واسم بلده واسم العملة وأسماء الآلات: التقليدية والتقنية.. إن الأميركيين أنفسهم المولعين بالتغيير - والذين يقلدهم فريق منا في ذلك - لا يقولون بتغيير كل شيء، ولا يفعلون ذلك، بدليل:

أ) أن إعلان الاستقلال الأميركي قال: لا ينبغي تغيير ما لا حاجة إلى تغييره.

ب) أن الدستور الأميركي، وصفه كبار القانونيين الدستوريين الأميركيين بأنه «دستور محافظ»، أي غير ثوري. وهذا الوصف ملتزم به عمليا، عبر أكثر من قرنين. فالدستور الأميركي وُضع عام 1787. وهو لم يزل كما هو بمواده السبع الأساسية. وقد يقال: إن ثمة تعديلات عديدة بلغت نحو ثلاثين تعديلا أضيفت إلى المواد السبع الأصلية. ونقول هذا صحيح، بيد أن التعديلات أو الإضافات هي نفسها دليل على المحافظة في هذا الدستور، إذ هي «بديل» لتغييره كله.. ومن الدلائل الإضافية على «ثبات» الدستور الأميركي خلال هذه المدة الطويلة - من عام 1787 إلى يوم الناس هذا - أن التصديق على التعديل يتطلب موافقة ثلاثة أرباع الولايات. وهذا القيد الدستوري يمنع «فوضى التغيير» المزاجي أو المتسرع بلا حاجة حقيقية.. الدليل الثاني الإضافي هو ما صرح به مفكران أميركيان بارزان هما: ماكس سكيدو، ومارشال كارتر وانك في كتابهما «كيف تحكم أميركا»، فقد قالا: «أما الدستور الأميركي فيسمح بتطوير في التطبيق من غير تغيير راديكالي أو سريع في المبادئ الأساسية للوثيقة الأصلية».

ثم يأتلق معيار آخر، في موضوع تحرير مفهوم التغيير، وهذا المعيار هو: ما الذي ينبغي تغييره في المفاهيم والعادات والأعراف والمسالك؟ وما الذي يتوجب الإبقاء عليه، والاستمساك به؟ وهذه الأسئلة المعيارية تفتح نافذة للتعرف السديد على مواصفات «الأمة الراشدة». فهذه الأمة الراشدة هي التي تقبل بمقياس راشد.. وترفض بمقياس راشد، وهي التي تنفي ما يتوجب نفيه، وتقر ما يتوجب إقراره وإثباته. وأولى الأمم بذلك هي أمة «التوحيد الخالص».. أمة «لا إله إلا الله». فهذه الجملة مركبة من نفي وإثبات: بناء على وعي كامل بالمنفي وبسوئه. وهو الآلهة الباطلة كافة.. وبناء على علم تام بالمثبت وهو وجود الله ووحدانيته جل ثناؤه.. ومن هنا، فإن الرفض والقبول، والنفي والإثبات ليس قضية معرفية فحسب، بل هو - كذلك - قضية اعتقادية إيمانية.

إلا أنه يتوجب تكوين «رأي عام ناضج ومستنير» حول مسألة «التغيير» هذه. فالمطلقات في هذه المسألة نوع من الإضلال، بل إن هذه المطلقات باب للإحباط والقنوط. فتبشير الناس بتغيير كل شيء سيصيبهم بالقنوط عندما لا يتغير كل شيء، بناء على قاعدة وثيقة الاستقلال الأميركي «لا ينبغي تغيير ما لا ينبغي تغييره».