حدوتة مصرية

TT

وصلني بريد إلكتروني يتضمن اسكتشا من نوع الكوميديا السياسية المنتشرة في أوروبا ومصر في الستينات، مسرحها ميكروباص. وهو - لغير المصريين - وسيلة مواصلات شبه عمومية عرفت بـ«سرفيس الميكروباص». والاسم تركيب من كلمتين service أي خدمة، وMicro-Bus وهما كلمتا «الباص» و«المصغر» بدلا من الأتوبيس (الحافلة عند العرب) التابع لمصلحة النقل العام في المدن والمديريات لنقل ما بين 48 إلى 64 راكبا (حسب نسبة المقاعد لأماكن الوقوف) وغالبا ما يزدحم بأكثر من 80. البعض فيه كمساري (محصل) لجمع رسوم التذاكر وأحيانا ما يتولى السائق مهمة تحصيل التذاكر بجانب القيادة.

وكحل وسط بين الأتوبيس والتاكسي، الذي لا يتسع لأكثر من أربعة ركاب، جاء الميكروباص ليشغل مساحة أقل من الشوارع المزدحمة بأجر أغلى من الأتوبيس العام وأقل من التاكسي الخصوصي ويتسع لما بين 9 و12 شخصا.

نص الاسكتش (وأضع التعليقات الإيضاحية لغير المصريين بين قوسين):

سائق الميكروباص كان غبيا لا يلتزم بقواعد المرور، وعنيدا يتجه بالناس حسب مزاجه دون سؤال رأيهم (الميكروباص يسير تقليديا على خطوط الأتوبيس العام، ولكنه ينحرف إلى الأحياء السكنية بأجر إضافي أو لتوصيل سيدة لبيتها في ساعة متأخرة من الليل).

تذمر الركاب من قلة ذوق السائق وعدم احترامه لهم والمغالاة في الأجرة؛ ومحاولات تسليم عجلة القيادة لابنه الأرعن فكاد ينقلب بهم أكثر من مرة.

تشاور الركاب بعد اكتشاف تلاعب السائق في الأجرة، وتأزم الموقف عقب مشاجرة تطورت من اعتدائه وابنه على مدموزيل لطيفة احتجت على مغالاته في ثمن التوصيلة. هاج الركاب، مستغلين كثرتهم، فنزعوا الحاجز الذي يفصلهم عن مقعد القيادة ووضعوا السائق وابنه في الشنطة (خزانة الأمتعة أسفل كابينة الركاب).

كان بين الركاب ضابط جيش تطوع لقيادة الميكروباص، واطمأن الركاب للبذلة الميري (الزي العسكري) وأزرارها اللامعة، فمظهره يدل على وعيه، ومن الأوسمة المبهرة على صدره لا بد أنه على قدر من المسؤولية ويستطيع حمايتهم.

لم يفهم أحد كيف تطور النقاش عما يجب عمله بشأن السائق القديم وابنه، إلى مهرجان من المشاكل........... ونداءات موجهة إلى السائق - الضابط. قال راكب ملتحٍ «شغل القرآن يا أسطى، أقصد يا حضرة الضابط» فرد شاب «ما تقرا القرآن في سرك... عايزين نسمع نتيجة ماتش الأهلى»............ نادى ملتح آخر يدلك «الزبيبة» في جبهته ويلوح بالمسبحة في يده الأخرى «مفيش حاجة أغطي بيها رجلين الست المتعرية دي... أستغفر الله...». فردت السيدة بغضب «ما هو علشان تشوف رجلي لازم تلوي رقبتك تحت الكرسي، إختشي على دمك. أنت أساسا بتبص ليه؟»

ورد صوت ريفي من الخلف «أنت ممكن تغض بصرك يا مولانا؛ بس أنا التلميذة دي جنبي بالفستان اللي...اللي....أستغفر الله العظيم....، شوف.. أهي نقضت وضوئي خلاص..... حسبي الله ونعم الوكيل!».

وصرخ آخر «من فضلك يا كابتن أنا كمان متوضي، اللي جنبي ده الظاهر مسيحي..... خليه يقعد جنب التلميذة أم فستان... وأهي الطيور على أشكالها.......» ورد جاره «أنا أول واحد ركب الميكروباص وهو فاضي..، إيه اللي قعدك جنبي؟»

تحت غطاء الجدل مد ولد - شهرته ملقاط - أصابعه ناشلا محفظة جابر أفندي الموظف، فصاح الأخير «إحنا قدام قسم البوليس... وقّف الميكروباص»...... أشار الضابط لقسم الشرطة المغلق الأبواب، واعتذر لأن الأوامر تمنعه من مطاردة النشالين «لأنه اختصاص الشرطة المدنية» فهرب اللص بمحفظة جابر أفندي الذي سقط لاهثا من السعال، يلعن سنوات التدخين، ولم يلحقه في الشارع.

انشغلت السيدة والطالبة بفض شجار بين صابر الميكانيكي والأستاذ حسن المحامي الذي اتهم صابر بتلطيخ حذائه الأنيق وتلويث بذلته الجديدة بيديه المتسختين بزيوت الورشة عندما قفز فوقه ليجلس بجوار النافذة بلا استئذان....

لاحظ الركاب أن السيارة لم تتحرك لمدة لا يعرفونها، فلم ينظر أحد في ساعته لدهر انشغلوا أثناءه بما كان - لا بد - أهم من الرحلة نفسها...

سألت الطالبة الضابط لماذا لم يتحرك؟ فرد مبتسما «لسه بدور على الكتالوج بتاع الميكروباص علشان أشغله...... أصلي ما بعرفش أسوق أتوموبيلات وكنت دايما باعتمد على العسكري السواق يوصلني...».

«حدوتة مصرية».. كان يردد صديقي المرحوم المخرج السينمائي يوسف شاهين، تعليقا على حوار أو موقف في الشارع يستخلص منه عبرة سياسية أو اجتماعية، حتى اختار العبارة مرة اسما لأحد أفلامه الواقعية. حدوتة الميكروباص واقع مصر اليوم. صراع بين تيارات تحمّل الجيش أكثر من طاقته وتطلب منه ما ليس في اختصاصه أصلا.

وسواء افترضنا حسن النية من عدمه، فإن مهمة الجيش حماية الحدود وأمن الوطن وليس قيادة العربة السياسية نحو نظام بعينه.

يمكن لسلاح المهندسين في الجيش مثلا إصلاح جسر مهدم أو إزالة عائق يسد الطريق، أما تحديد اتجاه السير فمهمة الركاب لأنها مصلحتهم الأساسية، كمصلحتهم في اختيار السائق حسب الكفاءة والقدرة على فهم الخرائط، لا حسب زيه، مهما يوحي المظهر بالمسؤولية والقدرة على الدفاع.

حدوتة الميكروباص المصرية، تماثل جوهريا القول الإنجليزي (وله مقابل بكل اللغات) ضع الحصان أمام العربة، وليس وراءها. أي بلا آلة الجر لا تستطيع سحب أي شيء.

ولعل الميكروباص هو الانتخابات الحالية التي تحولت إلى هدف في حد ذاته، بدلا من وسيلة واحدة، ضمن وسائل متعددة ومؤسسات وأنظمة وتفاعلات ديناميكية تتشكل منها الديمقراطية.

ولا يهم الإخوان والسلفيين مثلا تحرك الحافلة - الانتخابات أو وقوفها جامدة، فهم سعداء طالما أدار الممسك بعجلة القيادة الراديو إلى ما يفرضون سماعه على الجميع، وحجب ما يؤذي أبصارهم (ولم يلاحظوه أصلا إلا بليّ الأعناق) وتأكيد تفوقهم على الآخرين لإفهام الجميع أن وضوءهم لم ينقض.

عناوين الصحافة وتعليقات الإذاعة تتحدث في بلاهة عن نجاح مصر في اختبار الديمقراطية بالانتخابات التي تحولت إلى أنجح وسيلة لتصفية الثورة المصرية، وإفراغها من مضامينها.

وكركاب الميكروباص تنشغل التيارات السياسية المصرية بالصراع والتنافس، مستخدمة السلاح الذهني (إظهار الإيمان المفرط) أو البصري (بالمسبحة وفرض الحجاب أو البذلة الأنيقة) أو «الشطارة»، (كمهارة نشل المحفظة) للحصول على أفضل المقاعد (البرلمانية) وأكثرها راحة ونفوذا، ودفع «الطيور التي على أشكالها تقع» إلى مقاعد خلفية. الحافلة ستظل في مكانها طوال أشهر الانتخابات (المعقدة في حساب النتائج) لينسى المصريون أثناءها الثورة وأهدافها، ويتعب الركاب من الشجار فيغلبهم (والسائق الذي لا يعرف القيادة) النوم، وتصبحون على خير.