عندما اجتمع الشيخان

TT

أحزن عندما يصر البعض على أن يخترع العجلة من جديد، فيحول الخلاف السياسي إلى خلاف مذهبي من أجل حشد الأنصار وتهميش الآخر والحصول على غنيمة على حساب حقوق الناس الطبيعية، والشيخان في العنوان هما الشيخ علي السلمان والشيخ عبد اللطيف المحمود، وكلاهما قطب سياسي شعبي في الجهتين الشيعية والسنية، فيما عرف اليوم بالأزمة السياسية المستحكمة في البحرين. وكان اللقاء مع مجموعة كبيرة من المهتمين من أبناء الخليج، في ندوة عقدت في الدوحة آخر يوم من الشهر الفائت وأول يوم من الشهر الحالي، وكانت بعنوان «دور التنوع المذهبي في مستقبل منطقة الخليج العربي»، لم يلتقِ الشيخان للحوار وجها لوجه في المنامة، مكان الخلاف السياسي ولكن في الدوحة، مع عدد من المهتمين من دول الخليج.

حقيقة الأمر الهدف من تلك الندوة غير المعلن عنه هو الوصول إلى شيء من التوافق لتلمس حلول حول نزع المكون المذهبي من الخلاف السياسي في المنطقة، بؤرة ذلك الخلاف تكمن في البحرين، التي اشتد فيها الصراع السياسي تحت مظلة التحزب للمكون المذهبي حتى بلغ سيل الدم، ولكن أيضا الهدف لا يقتصر على ذلك، ففي دول الخليج إرهاصات من ذلك القبيل تخف أو تتجذر حسب المكان والظروف، إلا أنها هناك تهدد النسيج الاجتماعي للمنطقة بالفرقة والشتات.

وقبل أن أبحر في أمر الندوة، أستأذن القارئ بالحديث عن شيخين آخرين في تاريخنا الحديث، هما الشيخ عبد المحسن شرف الدين من النجف، والشيخ سليم البشري شيخ الأزهر، وقد التقيا في بداية القرن الماضي (1909) في الأزهر، بعد أن شد الشيخ النجفي الرحال إلى القاهرة، للالتقاء بشيخ أزهرها، وكان الدافع شعورا غامرا لدى قيادات مستنيرة من المسلمين وقتها، بأن ضعف الأمة يكمن في نزاعها وفرقتها المذهبية، واستفادة «المستعمر» وقتذاك من تلك الفرقة، واستمر اللقاء بضعة أيام، إلا أن الشيخين اكتشفا عمق الموضوع وتشعبه، فقررا أن يتم النقاش بالمراسلة، ونتج عن تلك المراسلات 21 رسالة، ناقش فيها الطرفان الموضوع بعمق وتفصيل، ووثق النقاش الشيخ عبد المحسن في كتاب ما زال بيننا بعنوان «المراجعات» فيه من أدب الاختلاف نموذج، وفيه من أسباب التوافق العلمي نبراس، وفيه من تفهم الاختلاف واحترام الآخر سابقة إيجابية. منذ ذلك الوقت، أي في بداية القرن العشرين وحتى يومنا هذا، ما زال من يطلب الاختلاف بين المذهبين يجده ويوظفه سياسيا، ومن أراد التوافق يجده وقد يوظفه سياسيا، إلا أن الأغلب في قرن كامل هو التوظيف السلبي المشين.

فإذا قلت في مطلع الحديث، إننا لا نكتشف العجلة من جديد، ربما وقع هذا القول على آذان البعض موقعا إيجابيا. الخلاف الذي نراه هو خلاف سياسي، إن أحسنّا النية، فإن التعدد المذهبي الإسلامي يمكن أن يكون تعضيدا لثراء المجتمع، وإن فسدت النيات، فإننا نتعامل مع مفجر خطير في مجتمعاتنا العربية بعامة والخليجية بخاصة.

إبقاء المطالب السياسية في إطارها المذهبي هو توظيف سياسي يستفيد من الجهل أو التجاهل أو التوظيف السلبي، كما أن إبقائها هناك هو تهميش للقيادات السياسية، وتحول القيادة إلى القيادة السياسية من الزمنية إلى دينية، وأولويات الاثنين السياسي والديني مختلفة، لأن الأول يسعى إلى التوافق والحلول الوسطى بطبع اهتمامه، وتقيد الثاني حدود لا يخرج منها هي «انحصارية» في طبيعتها وأساسها تاريخي، وليس معاصرا يناقش هموم الناس. لرجل الدين سقف لا يستطيع الخروج منه هو أن الهداية والسعادة تكمنان في اتباع «مذهب معين» وأن المخالفين يتسمون بالعناد والبعد عن الحق، ولرجل السياسة هامش في المناورة والحلول الوسطى والاختلاف والتوافق.

المطالب السياسية اليوم، هي مطالب توصل إليها المجتمع الإنساني وأصبحت عالمية، وهي عامة ومشتركة، تعتمد المواطنة من خلال جناحين هما صناديق الانتخاب والاعتراف بالتعددية في مساقات حقوق الإنسان، حيث إن في السياسة أكثر من «حق»، إذ تختلف القراءة، والحق السياسي يوصل إليه من خلال المناقشات الحرة.

منطقة الخليج بسبب كثير من الخصوصية في نسيجها الاجتماعي، تستطيع أن تخرج من مأزق الخلاف المذهبي لتناول المظلومية من جانبها السياسي، البقاء في مظلومية الطائفة يحاصر العمل السياسي ويحرمه من الدخول في العصر والاستعانة بالجناح الآخر الذي له مظلومية أيضا. البعض في الخليج أراد أن يكرر نفس التجربة في بعض البلاد العربية أو القريبة، وأقصد إيران ولبنان، وكلاهما له ظروف سياسية واجتماعية وصيرورة تاريخية مختلفة. انحصار المطالب السياسية في طائفة يقلل من قوتها، لأنه يحرمها من التوافق المجتمعي الواسع.

في كثير من النقاشات في ندوة «التنوع المذهبي» تم الاعتراف بأن ما نحن بصدده من تصلب سياسي في الخليج منشؤه سياسي وليس مذهبيا، المذهبي يضيف إلى جدل السياسة مخاطرة، وأن أصل الخلاف المذهبي نشأ سياسيا، فنسي الناس الأصل وتمسكوا بالنتيجة.

لقد كان حوار الندوة ثريا وشجاعا في آن ومتشعبا أيضا، يأخذه رجل السياسة من الحضور إلى موقف، ويأخذه رجل البحث من الحضور إلى تحليل يجري عليه التفكيك والتركيب. إلا أن الاكتشاف في الندوة هو نقص المعارف الاجتماعية لفهم مثل تلك الظواهر، وكم نحن متخلفون في مناطقنا في تلك المعارف، التي نحتاجها أكثر من غيرنا. من هنا كان البعض يصف الاختلاف من الزاوية التي تحلو له، أو يفهمها من جانب واحد في الغالب تاريخي. لقد تبين أن الوعي المجتمعي الحديث مغيب عن كثير من النخبة الخليجية، وأن الاصطفاف سرعان ما يجري خلف العواطف لا منطق العقل، وفي مثل عصرنا الذي يعج بالفيض المعرفي، يأسف المتابع أن يرى ذلك الخلل المعرفي الجلل.

حقائق بسيطة تغيب في التوظيف السياسي للتشدد المذهبي، بعضها لا يخطئه عاقل، مثل التأكيد على أن لا أحد من الأطراف يستطيع أن يدعي أن له امتيازا خاصا من الخالق، بحيث يقول إنه على حق مطلق، فالجهل ضد الحلم كما هو ضد التوافق. لم تستطع نخب الخليج حتى الساعة أن تتعلم كيفية بناء التحالفات السياسية من أجل الوصول إلى مجتمع مدني يعلي من الحرية وحقوق الإنسان ويسعى إلى التوزيع العادل للسلطة والثروة، في منطقة مطموع بها ومهددة بالانفجار من الداخل تكون سواته على رؤوس الجميع. إلا أني أقول بكل ثقة إن خطوة الدعوة لمثل هذا الحوار وتنوع شخصيات حضوره من نساء ورجال، هي خطوة حضارية متقدمة، ولعل أهل العقل يستفيدون من ذلك النقاش الحر والموضوعي لصالح شعوب المنطقة.

آخر الكلام:

من يرغب في الاطلاع على أوراق الندوة الثرية ومناقشتها، يستطيع الدخول عليها في موقع «منتدى العلاقات العربية والدولية».