بمجرد أن يحضر

TT

كان يقال عن الفرنسي ساشا غيتري إنه ليس عليه أكثر من الصعود إلى المسرح، وبعدها كل شيء يحيا: الخشبة، الستار، الموسيقى، الممثلون، الحوار، والمشاهدون. هكذا قيل في روايات ارنست همنغواي، الذي أصر تلميذه، غابرييل غارسيا ماركيز، على أن «قصة همنغواي هي أعظم قصة في العالم». لم يكن عليه سوى أن يحضر، أن يحمل قلما وورقة، ثم تروح الدنيا تمطر كلمات.. كلمات، أو على قول نزار، كلمات ليست كالكلمات.

هل كان الأمر كذلك عند نجيب محفوظ؟.. ألم يكن مثله، سيد الحوار في الرواية؟.. لا. نجيب محفوظ كان كثير الاجتهاد قليل الحركة. كانت تنقصه تجارب الحروب التي عاشها همنغواي، وتجارب السفر، وتجربة باريس التي وصفها بيوم كان «فقيرا جدا وسعيدا جدا». محفوظ فضل طمأنينة القاهرة وأمانها.. البيت والمكتب والمقهى وحلقة الرفاق التي لا تتغير. أثرى نفسه وأدبه بتجارب الغير. همنغواي كان صحافيا، وكان عليه أن يسافر عن الناس لينقل إليهم دراميات العالم ومصارعة الثيران ومشاعر الجنود المصابين الذين كان ينقلهم كسائق سيارة إسعاف.

كل هذه التجارب كان لا بد لوصفها من مفردات. وإذا ما تكرر المشهد فإن على الكاتب أن يحذر تكرار نفسه. النجاح لا يحتمل العودة إلى الوراء ولا التراخي ولا الكسل. كان الناس يظنون أن المسرح عند ساشا غيتري مثل ارتداء السترة أو خلعها. لكن هكذا بدا لهم، لأنه جرب المشهد عشرات المرات قبل أن يطل على الخشبة. وكم خاف من الفشل. وعندما لم يكن مستعدا كم خاف أن يفتضح أمره ويكتشف الجميع أنه لم يبذل ما يكفي من الجهد لكي يبدو الأمر سهلا.

أعتقد أن أعظم كُتّاب العالم، لو تسنى لهم الوقت لأعادوا النظر في التحف التي تركوها لنا. لكن بعضهم لم يسمح له الوقت أو الفقر أو الظروف. قيل عن همنغواي إنه لا يضع خاتمة لرواياته، بل يترك القارئ في الاستراحة، يحاول بنفسه أن يكتب الفصل التالي وأن يتعب في وضع الحبكة ورسم العقدة. لذلك لكل نهاية في قصصه عشر نهايات، على الأقل.

هل من شبيه عربي؟ لا أدري. لا تمكنني مطالعاتي للحكم في هذا الأمر. لكن لعبة الكلمات وأقدام ساشا غيتري على المسرح تذكرني برقص الباليه في كتابات سعيد فريحة. كان يبدو في خفة فراشة لكنه يشقى مثل فيل. ولا تزال الزميلة «الصياد» تنشر «جعبته» حتى اليوم، مرة من 1953، ومرة من 1963، ومرة من 1983. وفي كل مرة تبدو «الجعبة» وكأنها أجمل وأمتع من الحصاد الجديد، أو أي حصاد آخر. وعذرا قلبيا من الجميع.