موسم صعود الإسلاميين

TT

إنها أشبه بالقاعدة التي لا استثناء لها اليوم: حيثما سيسمح بإجراء انتخابات حرة وشفافة في المنطقة العربية سيفوز الإسلاميون. حدث ذلك في الجزائر مطلع التسعينيات، وتكرر في العراق وفي الأراضي الفلسطينية، ويحدث اليوم في تونس ومصر وليبيا والمغرب. حصل الشيء نفسه في تركيا وقبلها إيران، الإسلاميون ببساطة يربحون وما يحدث اليوم هو إقرار بأن تأخير هذه النتيجة والاستمرار في إعاقتها عبر تبني نظم ديكتاتورية تخوف من الخطر الإسلامي أو عبر تزوير الانتخابات أو التلاعب بنتائجها، لم يعد ملائما. شئنا أم أبينا، فإن الموجة الراهنة في المنطقة هي موجة الإسلام السياسي لأن الإسلاميين ربحوا الشارع منذ وقت طويل وهم يقطفون ما زرعوا اليوم.

يفوز الإسلاميون لعدة أسباب. هم يفوزون لأن الآخرين فشلوا، فالإسلام السياسي انطلق كرد فعل، كحركة اعتراض واحتجاج أكثر من كونه برنامجا واضحا ينطوي على رؤية ناضجة. معظم الدول الإسلامية والعربية حكمتها حركات علمانية قومية أو وطنية منذ الاستقلال، وكان حكم تلك الحركات قائما على وعود بالتنمية والتحرر السياسي والاقتصادي والعدالة الاجتماعية. لكنْ عقود طويلة من حكم هذه الحركات غالبا ما انتهت إما إلى فشل شبه تام أو إلى إخفاقات كبيرة وارتدادات واضحة عن مشاريعها الأصلية، لتتحول إلى أنظمة قائمة على الحكم الأمني - القمعي والسلطة العائلية والإفقار الاجتماعي والاقتصادي بسبب سيطرة الفئات الطفيلية على الثروات وإهدار كرامة الغالبية. لم تكن المشكلة قط في الشعارات التي عبرها تسلقت تلك الأنظمة إلى السلطة، بل بارتداد تلك الأنظمة عن شعاراتها الأولى وإفراغها من محتواها. إذا كان الدستور يتغير من قبل برلمان غير منتخب من أجل السماح بتوريث السلطة من الأب إلى الابن، فما الذي يبقى من الحكم الجمهوري، وإذا كان رجال الأعمال المقربون من السلطة يسيطرون على معظم المشاريع الاقتصادية الكبرى فما الذي يبقى من العدالة الاجتماعية، وإذا كانت الأنظمة تستمد شرعيتها من تخويف الخارج من خيارات شعوبها، فما الذي يبقى من الاستقلال السياسي؟

ظهر الإسلام السياسي كانعكاس لخواء الحياة السياسية ليمثل في أحد جوانبه محاولة من الشعوب للبحث عن هويتها التي أضاعتها وعود غير منجزة بالتطور والحداثة، أحيانا بعض حركات الإسلام السياسي تبنت موقفا معاديا للحداثة، مكفرا لكل مضامينها ومنجزاتها، وبنت شعاراتها على مفاهيم غامضة وغير محددة المعالم كانت تركز على ما يحتويه الإسلام من تأكيد على قيم العدالة والكرامة، دون أن تترجم ذلك إلى برنامج واضح عن كيفية تحويل تلك القيم إلى سياسات.

نجاح الإسلاميين في كسب الشارع يتعلق بشكل رئيسي بقدرتهم على التناغم مع ثقافته ومفاهيمه، بل إن معظم قادتهم جاءوا من أوساط الطبقات الشعبية محاولين ترجمة سخطها ورفضها باللغة التي تفهمها وتستخدمها تلك الطبقات، وهي أصبحت إلى حد كبير لغة دينية أكثر من أي شيء آخر. كانت إيران هي أول اختبار لهذا التحول، فالثورة هناك حصلت ضد نظام علماني أقام شرعيته على وعود التحديث والتنمية والنهوض القومي، ولكنه كان نظاما نخبويا انفراديا قمعيا ومنعزلا عن المجتمع في غالبية أفراده، وبالنتيجة كان المجتمع قد طور تدريجيا رفضه للنظام عبر تبني كل القيم التي كانت منافية لطبيعة النظام: التدين، العدالة، الثورة، ومع انهيار النظام إثر هبة شعبية شملت اتجاهات آيديولوجية متباينة كما هو حال الثورتين المصرية والتونسية، كان الإسلام السياسي هو الأقدر على الصعود لأن لغته وثقافته ومفاهيمه كانت تحاكي الرفض الشعبي أكثر من الآخرين. نفس الشيء نراه يتكرر في تونس ومصر، فرغم أن القوى الليبرالية واليسارية لعبت دورا كبيرا في ثورة الشباب بل وسبقت القوى الإسلامية في المبادرة، فإن منطق الثورة ليس هو منطق الانتخابات. فتلك القوى تمتلك قلوب وعقول الكثير من الثوار، لكنها لا تمتلك قلوب وعقول الكثير من الجماهير، وفي الانتخابات فإن وزن الجماهير أكبر من وزن الثوار بطبيعة الحال.

ولكن السؤال الذي لا بد من طرحه اليوم هو كيف سيكون حكم الإسلاميين؟

في جميع التجارب التي لدينا حيث الإسلاميون حكموا أو شاركوا في الحكم (إيران، تركيا، العراق، فلسطين)، تبدو النتائج متفاوتة بحسب تفاوت استجاباتهم لتحدي الحكم. ففي إيران قرر الإسلاميون أن يقيموا نظاما إسلاميا فريدا من نوعه في العالم قائما على مبدأ ولاية الفقيه المستندة إلى تأويل معين للفقه الشيعي. في التسعينيات بدا أن التجربة يمكن أن تصبح واعدة مع انفتاحها على التجدد في ظل حكم الرئيس خاتمي، لكننا اليوم وفي ظل إقصاء كبير للتيارات الإصلاحية وميل نحو غلق النظام أمام فرص التجدد (مبررا بالمواجهة مع الخارج) نستشعر الأزمة العميقة التي يمر بها والتي تجعله غير مؤهل للتحول إلى نموذج حتى بالنسبة لشيعة الدول الأخرى في المنطقة.

في تركيا يبدو أن حزب العدالة والتنمية يسعى لتقديم نموذج جديد لحكم الدولة من قبل تيار إسلامي، نموذج قائم على استيعاب الحداثة والديمقراطية في إطار نظام علماني بحسب وصف رئيس الوزراء التركي له. لكن من المهم التأكيد على أن خصوصية حزب العدالة والتنمية تنبع إلى حد كبير من خصوصية التجربة التركية نفسها بتراثها العلماني العميق وبعد زمن طويل من ترسيخ القيم العلمانية في إدارة الدولة. ومع حقيقة أن الإسلاميين كان عليهم أن يظهروا أكبر درجات حسن النية كي لا يصطدموا بالعسكر، يظل هذا النموذج هو الأكثر نجاحا والذي بناء عليه بات الغرب مستعدا للتعاطي مع فكرة وجود حزب إسلامي في السلطة.

مع ذلك، يظل العامل الأهم هو كيف سيوطن الإسلاميون فكرهم مع تعقيدات إدارة الدولة، وهل هم مزودون بالذخيرة اللازمة للتعامل مع تحديات تتعلق بالوضع الاقتصادي والقانون المدني والسياسة الخارجية. في الغالب سينقسمون إلى تيارين، براغماتي معتدل يحاول التكيف مع تحديات الحكم، وآخر متشدد يحاول أن يكيف الحكم مع تصوراته المسبقة. ميل بعض الإسلاميين إلى تحقيق انتصارات سريعة وغير ذات قيمة عبر الأسلمة القسرية والتشدد تجاه الأقليات الدينية وتحجيب المرأة والفصل بين الجنسين، يعكس تيارا واسعا متخبطا يفضل التعامل مع قضايا ليست ذات صلة حقيقية بحاجات المجتمع، كطريقة للهروب من التعامل مع القضايا الحقيقية. مثل هؤلاء إذا سادوا، فإنهم سيأخذون حكم الإسلاميين إلى نهاية سريعة متى أتيح للناس أن ينتخبوا بحرية مجددا..