التاريخ يفتح صفحة جديدة في كتاب الزمن المصري

TT

بظهور النتائج الأولى لجولات الانتخابات في مصر، معلنة اكتساح حزب العدالة والحرية لكل منافسيه، ومعلنة أيضا أن التالي له في عدد الأصوات هو حزب النور الذي شكلته الجماعة السلفية، يكون التاريخ قد فتح صفحة جديدة في كتاب الزمن، اكتفى فيها بكتابة عنوان الصفحة فقط وهو الحكم الديني في مصر، تاركا للأحداث المقبلة أن تخط سطوره.

حصول جماعة الإخوان ممثلة في حزبها على غالبية الأصوات كان متوقعا، أما هذا الظهور والاكتساح المفاجئ لحزب النور فهو بالتأكيد لم يكن على بال أحد، خاصة أنه حزب جديد لم يمر على إعلانه أكثر من شهور. السلفيون كلمة جديدة في قاموس المصريين والمعلومات عنهم قليلة للغاية، والأمر الوحيد المؤكد عنهم هو أنهم على يسار جماعة الإخوان. والمؤكد أيضا أن كلا الجانبين دخلا ميدان السياسة من أوسع أبوابها وأكثرها شرعية ولكن بمرجعية دينية. كما أنهما حققا نتائج مبهرة وكأن الشعب المصري قرر توجيه ضربة قاضية لكل من عمل بالسياسة قبل ثورة يناير.

ليس من الصعب التنبؤ بنتائج بقية الدوائر في الجولات التالية، لن تحدث مفاجآت، ستكون الأغلبية في البرلمان المصري لأعضاء في الحزبين، فيا ترى.. ماذا سيكون عليه شكل مصر سياسيا على الأقل في الفترة القادمة؟

ربما يكون ما سأقوله لك مستمدا من مخاوفي وهواجسي بأكثر مما يستند إلى الحقائق التي لا يعرف عنها أحد شيئا، إذ لم يحدث من قبل ما حدث الآن من انتصار كبير للجماعات الدينية سلفية كانت أو شبه سلفية.

من البديهي أن يشكل حزب العدالة والحرية الحكومة الجديدة، ومن البديهي أيضا أن يشاركه فيها حزب النور، غير أن ما هو بديهي في الحياة لا يكون دائما بديهيا في السياسة وشؤون الحكم، فرئيس الدولة الذي يمثله الآن المجلس العسكري هو المسؤول عن إصدار القرار باختيار وتعيين رئيس الوزراء واختيار أعضاء حكومته، أي أنه من الممكن - نظريا على الأقل - أن يعطي المجلس العسكري ظهره لنتائج الانتخابات ويشكل حكومة جديدة من غير أعضاء المجلس كله، أو يقوم بعمل تشكيلة لا يحتل فيها أعضاء الجماعة مكانة متميزة، أو يحصلون فيها على حقائب متميزة، من الغريب أن جماعة الإخوان نفسها لا تعارض ذلك بقوة («المصري اليوم» 2 ديسمبر/ كانون الأول 2011) غير أن ذلك لو حدث فسيكون خطأ سياسيا كبيرا (تعبير خطأ سياسي يعني أكثر من جريمة كما قال تاليران وزير خارجية فرنسا الشهير بعد إعلان الجمهورية) نعم أقولها بأقوى الكلمات، نظرا لما سينتجه من برلمان تعيش أغلبيته في صراع دائم وربما خصومة مع الحكومة بما يضيع وقتها ويعجزها حتما عن الحركة والإنجاز. لقد اختار المصريون أو على الأقل من أدلى منهم بأصواتهم، من يمثلهم في البرلمان وعليهم أن يعرفوا بكل وضوح أنهم قد اختاروا أيضا من سيحكمهم.

في العمل السياسي، الجماعة الدينية - أي جماعة نابعة من أي دين - لا تميل إلى العمل العام السياسي المباشر بما يترتب عليه من حسنات وسيئات وبما يتطلبه أيضا من عمل شاق، غير أنها حريصة في كل الأحوال على أن تحتفظ (بالختم). هناك قرارات وهناك لوائح وقوانين وهناك أفعال لا بد من القيام بها وتحمل مسؤولية نتائجها، لا داعي لتحمل مسؤولية ذلك كله، لا بد من الاحتفاظ فقط بالختم الذي يعتمد ويبارك ذلك كله. هناك شغّيلة ولكن هناك مرشد عام كما هو حادث في إيران، هناك رئيس جمهورية منتخب من الشعب، غير أنه في نهاية الأمر في حاجة إلى ختم الموافقة الذي يحتفظ به حصريا المرشد العام.

عدم تشكيل جماعة الإخوان للحكومة الجديدة بما تفرضه عليها الأصوات التي حصلوا عليها، يعطيهم ميزة لم تكن لأحد من قبل، أن يكونوا حكومة وأن يكونوا أيضا معارضة. حكومة بمعنى أنهم يمثلون الكتلة الأكبر، بما يعنيه ذلك من قدرة على الضغط السياسي والمعنوي، وأيضا معارضة بمعنى أنهم سيعارضون بكتلتهم الكبيرة المؤثرة كل ما تفعله الحكومة عندما يأتي على غير هواهم.

المستقلون والليبراليون وأعضاء الأحزاب الأخرى لن يشكلوا جبهة قوية ضد الجماعتين، وربما يكون صراعا دستوريا وقانونيا يتعلق بشرعية وجود أحزاب دينية، ولكنها ستنتهي بالطبع بتلك المقولة الشهيرة وهي أنه لا توجد أحزاب دينية، إنها أحزاب سياسية بمرجعية دينية، هل هناك من لا يوافق على ذلك؟ لذلك أتصور أن الصراع الأساسي في البرلمان سيكون بين الحزبين الدينيين ليس لأسباب سياسية أو شرعية بل لأمور تتعلق (بالنجومية) نعم المعركة القادمة بين الطرفين ستكون معركة نجومية وهي أكثر المعارك شراسة في التاريخ، سيكون شعارها من منا الأكثر طلبا لتطبيق الشريعة؟ من منا سيكون المطالب الأكثر بخلو مصر من الفساد؟ الجزء الظاهر من هذا الصراع سيكون دينيا، أما حقيقته وصلبه فسيكون صراع نجومية، ينضم إلى كل المعارك المثيلة في تاريخنا والتي ما زلنا نعاني مما أحدثته من انقسامات حتى الآن.

سيبذل الطرفان جهدا كبيرا لإثبات أن الطرف الآخر ليس من السلف الصالح أو ليس سلفيا بما يكفي وذلك من أجل ضمان الحصول على بطولة الفيلم القادم أقصد الانتخابات القادمة بعد أعوام.

في حال تشكيل حكومة من الجماعة مطعمة ببعض العناصر من حزب النور، ستعلن في اللحظة الأولى أنها ملتزمة بتنفيذ كل اتفاقيات مصر مع دول العالم، وأنها مع التوجه إلى الاقتصاد الحر وأن علاقتها بأميركا قوية وثابتة (أمال يعني تفتكر حايسيبوا فلوس المعونة؟) غير أنها لا توافق على انحياز أميركا الأبدي لإسرائيل وأنها سترسل وفدا فورا إلى أميركا لإقناع أعضاء الكونغرس ليس بالتخلي عن تأييد إسرائيل ولكن لعدم الكيل بمكيالين في سياستها في الشرق الأوسط، وأنها ضد التطرف بكل أشكاله، وبأن المسيحيين في مصر مواطنون مصريون لهم ما لنا وعليهم ما علينا، وأنهم ليسوا ضد الفن بشرط أن يكون ملتزما بالأخلاق والفضيلة. كما أنه من المحتمل إلغاء قانون الرقابة على المصنفات الفنية وذلك تشجيعا للفنانين على الانطلاق إلى الأمام، الفنان ليس في حاجة لمن يراقبه بل لمن يرشده، وهو ما سيتحقق بوجود مكتب الإرشاد الفني الجديد.

كما ستطلب من المعتصمين والمتظاهرين هدنة لإعادة بناء البلد، هدنة لمدة خمسة أعوام فقط ومن ينتهك هذه الهدنة يتحمل العواقب الشرعية لذلك. كما أنه من الطبيعي أن تعلن عن تشكيل لجنة لمراجعة كافة القوانين التي سنتها الأنظمة السابقة المستبدة قبل الثورة لاستبعاد ما كان يسمح بارتكاب المعاصي.. مرة أخرى، ليس هذا تحليلا سياسيا، هذا إعلان مخاوف من شخص كثير المخاوف.