كلمات في الثورة والمعارضة في سوريا

TT

توالت المؤتمرات والمجالس والمبادرات للمعارضة السورية في الداخل والخارج منذ اندلاع الثورة السورية في شهر مارس (آذار) 2011، لكن دون جدوى حقيقية تذكر على صعيد الدعم السياسي المطلوب للثورة وفي إضعاف النظام داخليا وخارجيا، فكل ثورة لها جناحان: الأول ميداني والآخر سياسي، وانعدام التلاحم والتنسيق في ما بينهما يزيد من التكلفة المستحقة على الثورة ويضعها في خطر عظيم، ويبقى نجاحها مرهونا ببطولة الثوار ومدى قدرتهم على المواجهة، أي أن مصير الثورة سيتوقف على العمل الميداني فقط.

هذا هو حال الثورة السورية التي استمرت بعزيمة وثبات أحرارها وحرائرها وتضحياتهم العظيمة، فكانوا أحق بها وأهلها. أما على الجبهة السياسية للثورة فكل هذه المؤتمرات والمجالس والمبادرات لم تستطع أن تحدث أي ضعف في النظام، ولا حتى أقل من عشر ما أحدثه أبطال الميدان من أحرار وحرائر سوريا على الرغم من تزايد معاناتهم يوما بعد يوم، فأداة الإجرام الأسدية تتجرأ أكثر فأكثر، والمعتقلون يستغيثون واللاجئون صابرون، والمعارضة تتقاطر يوما إلى إسطنبول ويوما إلى القاهرة وغدا إلى تونس، وهنا مبادرة وهناك مجلس أو مؤتمر، والأيام تمضي والدماء تسال ويبقى النظام هو المستفيد الأكبر.

إنه من المفروض أن توحد هذه الثورة العظيمة، ثورة الحرية والكرامة، صفوف المعارضة بكل انتماءاتهم واتجاهاتهم السياسية والفكرية، وأن يكونوا جميعا، وأن تكون قلوبهم واحدة أمام تلك التضحيات التي يدفعها أحرار وحرائر سوريا مع فجر كل يوم جديد. ولا بد من القول إن توحيد صفوف المعارضة لا يعني أبدا توحيد التوجهات والمدارس الفكرية والسياسية التي ينتمون إليها، فالمذاهب والمدارس ما كان لها أن تتوحد، لكن الواجب عليها أن تلتقي في خندق الثورة وعلى هدفها، فالتوحد ليس على الفكر والمنهج وإنما على الهدف. وبمعنى آخر: المعارضة لا يمكن أن تتوحد أبدا لكن يجب أن تكون صفا واحدا دائما.

إذن فالثورة جمعت وفرقت في آن واحد، جمعت من آمن بمبادئها وتبنى خطابها وأهدافها في جانب، ومن تنكر لها وخذلها في الجانب المقابل تماما، وأحدثت تفرقا وبعدا كبيرا في ما بينهما وأظهرت الناس على حقيقتهم، حيث سقط القناع عن الجميع، وهذا من أهم فضائل الثورة التي أفضل ما تسمى به في هذا المقام بـ«الفاضحة» في الحقيقة، هذا فعل كل ثورة، فالثورة السورية لم تكن الاستثناء أبدا، لكن المعارضة السورية هي التي كانت الاستثناء، وذلك عندما تدعو إلى تشكيل مجلس وطني لإنقاذ الثورة ومقارعة النظام، قوامه المئات، لا.. بل وتقول هل من مزيد؟ وهذا لعمري في السياسة شيء غريب، والأشد غرابة أن يبقى القرار بيد ثلاثة.

كان يجب تشكيل مجلس إنقاذ وطني مؤقت تنتهي مهمته بتشكيل حكومة انتقالية بعد إسقاط النظام، وأن يكون قوامه لا يتجاوز ثلاثين رمزا من الرموز الوطنية السورية الكبيرة من كل الأطياف والطوائف في سوريا، وأن يكون التمثيل شخصيا وليس حزبيا، بمعنى أن المجلس ليس تجمع قوى سياسية، بل تجمع رموز وطنية، وهذا أمر ممكن في هذه المرحلة خصوصا أن الكثير من الرموز الوطنية أصبحت خارج سوريا، فلا مشكلة الآن بين الداخل والخارج. وفوق كل ذلك يجب أن يكون الأعضاء ممن اجتمعوا على هدف الثورة ووقفوا معها وساروا خلفها، فلا صوت يعلو فوق صوت الثورة. إن وجود الرموز الوطنية في قوام المجلس سوف يقنع الجميع بجديته ويعيق وصول كل من تسول له نفسه التسلق على الثورة وعلى دماء الشهداء، وما أكثرهم! أما التمثيل الوطني السوري فإن مجلسا يتكون من ثلاثين رمزا وطنيا يستطيع، دون أدنى شك، أن يعطي صورة مطابقة تماما للطيف السوري المتنوع طائفيا وفكريا، ولا داعي لكل هذه التجمعات المئوية التي لا تسمن ولا تغني من جوع، والتي في الحقيقة أصبحت عبئا ووبالا على الثورة.

هذا المجلس يجب أن يكون له استراتيجية واضحة وخطاب واحد هو خطاب الثورة، وليس ما نراه اليوم من خطاب ارتجالي متخبط ومتناقض أحيانا، بل متخلف كثيرا عن ركب الثورة. وفوق كل ذلك رئيس ذو خطاب سياسي مزلزل، كما يزلزل الثوار الأرض تحت أقدام النظام، فالمجلس هو الجناح السياسي للثورة فهو منها ولها، وقد علمنا ضرورة وأهمية تلازم الجناح السياسي مع الميداني في الثورة وسوء عاقبة تفرقهما.

وأما الثورة فإن كل من يتغنى بخطابها ويتبنى هدفها فهو يمثلها بحق، لكن يجب أن يكون لها مجلس يحميها، هو مجلس أمناء الثورة، فكما هي الحاجة ملحة لإنقاذ الوطن وتمثيله سياسيا، إقليميا ودوليا، كبديل عن النظام، فإن تمثيل الثورة أيضا ضروري جدا للحفاظ عليها وعلى أهدافها، وضمانا لحقوق أبطالها وأبنائها، وخصوصا بعد إسقاط النظام. ومجلس أمناء الثورة يجب أن يضم صقور الثورة ورموزها الميدانيين الذين استخلفهم الشهداء في حمل الراية والأمانة، وكما للوطن رموزه فإن للثورة رموزها أيضا. إن مجلس أمناء الثورة هو من سيحفظ الثورة من أن تسرق كما سرقت ثورات أخرى في المنطقة، ويحمي مكتسباتها ويقوم مسارها لو طغت أو تآمرت قوى داخلية أو خارجية عليها.

أما ما يتعلق بمستقبل سوريا وشكل الدولة المقبلة ووضع الأقليات، فهذا من لهو الحديث في هذه المرحلة بالذات التي يصب فيها النظام سوط عذابه على الشعب السوري ليلا ونهارا. وإن تعجب فعجب خوض بعض المرجفين العرب والعجم، مفكرين ومسؤولين، معارضين وموالين، في مستقبل سوريا بعد الثورة، وكأن مستقبل سوريا والسوريين جميعا سيكون أفضل لو بقي هذا النظام، وأن الثورة هي مصدر الخطر على مستقبل سوريا وليس النظام.

* باحث في مركز الدراسات السورية بجامعة سانت أندروز - المملكة المتحدة