في الاستعصاء السوري واحتمالاته

TT

يبدو الوضع السوري الآن في حالة استعصاء كامل. ففي المعادلة الداخلية ليست هناك تغييرات منظورة بمعادلات القوة القائمة من جهة ولا في الخيارات السياسية المطروحة، حيث اللوحة تشير إلى حضور إرادتين؛ واحدة يمثلها النظام عبر آلة القوة العسكرية - الأمنية التي تحاول إعادة فرض حضورها وقرارها على السوريين عبر حل أمني - عسكري مستمر منذ قرابة تسعة أشهر، لم يتمكن في خلالها من الوصول إلى نتيجة رغم عشرات آلاف الضحايا من قتلى وجرحى ومعتقلين ومطلوبين ومهجرين مضافا إلى ما سبق من خسائر مادية كبيرة في المستويات الخاصة والعامة لحقت بالسوريين مجتمعا ودولة وأفرادا، وإرادة أخرى تمثلها ثورة السوريين ضد النظام معبرا عنها ميدانيا بحركتي تظاهر واحتجاج واسعتين وحاضرتين في عشرات المدن والقرى بما فيها مدن كبرى، كما تعبر عنها حركة داخلية - خارجية لجماعات المعارضة السورية ولا سيما الكتلتين الأساسيتين: المجلس الوطني السوري وهيئة التنسيق الوطنية، اللتين تتوزعان على غالبية الأحزاب الكردية والمنظمة الآشورية في سوريا.

ومثلما هو عجز النظام بآلته العسكرية - الأمنية في حسم الوضع لصالحه، فإن ثورة السوريين ذات الطابع السلمي عجزت هي الأخرى عن حسم الأمر لصالحها، والقيام بإسقاط النظام الذي هو الهدف الأول الذي تبينه وتؤكده شعاراتها ومطالبها، وتؤيده جماعات المعارضة باعتباره الخيار والهدف الشعبي الأول، حيث إن المظاهرات وبفعل الآلة العسكرية/ الأمنية عجزت عن التحول إلى قوة تغطي الساحات الكبرى في المدن الرئيسية ولا سيما حلب ودمشق، وهي حالة يمكن اعتبارها بوابة إعلان إسقاط النظام.

وعجز طرفي الصراع في سوريا عن الحسم، ناتج طبيعي لعدة عوامل، بينها التفاوت في ميزان القوة، حيث يسيطر النظام على الآلة العسكرية - الأمنية في البلاد ويدخلها في مواجهة المتظاهرين والمحتجين وحاضناتهم الاجتماعية المصرة على التظاهر، والتي نشأت على هوامشها أنشطة شبه عسكرية أساسها منشقون عن قوى الجيش والأمن، وقد انضم إليهم أو يعمل إلى جانبهم مدنيون، غادروا حركة الاحتجاج والتظاهر خائفين أو ناقمين أو راغبين في الثأر لقتلاهم ولظروفهم التي صاروا إليها، لكن كل هؤلاء لا يمثلون سوى قلة ضعيفة في مواجهة حجم وقوة الآلة العسكرية/ الأمنية للنظام، بل يمكن القول إنهم لا يمثلون ظاهرة عامة، وإن كانوا حاضرين في عدد من المناطق السورية.

كما أن بين عوامل عدم حسم الصراع في سوريا عزوف قطاعات شعبية مهمة عن الاشتراك المباشر في الصراع القائم، وهو موقف تتحكم فيه المخاوف بدرجة ما ومنها مخاوف من الثمن الذي يدفعه المشاركون في التظاهر والاحتجاج ويصل الى حد القتل، ومخاوف أخرى، تتصل بما سيؤول إليه الوضع من احتمالات احتراب داخلي أو تدخل عسكري خارجي، أو بسبب مخاوف من مجيء متطرفين إسلاميين إلى السلطة بديلا عن النظام القائم، وكلها مخاوف يغذيها ويشجعها النظام لمنع فئات سورية من الذهاب إلى جانب الثورة.

غير أن الأهم في عوامل عدم القدرة على حسم الصراع الداخلي، هو الافتقاد لأية رؤية أو برنامج سياسي، يمكن أن يخرج البلاد نحو حل سياسي، يكون بديلا للحل الأمني/ العسكري القائم. لقد عجز النظام منذ بداية الأزمة وبسبب من طبيعته الأمنية عن التعامل مع الوضع باعتباره أزمة سياسية، اقتصادية اجتماعية، مصرا على اعتباره مشكلة أمنية، وهو بذلك لم يغلق ذهنه عن التفكير السياسي فقط، بل رفض في المستوى الداخلي أية أفكار حول المعالجة السياسية، مما دفع بالطرف الآخر في ظل تزايد العنف الممارس ضده إلى الذهاب بمطالبه وصولا إلى إسقاط النظام، مغلقا الباب أمام أي مشروع لا يقوم على إسقاط النظام.

وكان الأخطر في موقف النظام رفضه المبادرات الإقليمية والدولية، والتي كان آخرها مبادرة الجامعة العربية التي دعمها المؤتمر الأخير لمنظمة التعاون الإسلامي قبل أيام من أجل فتح الباب لمعالجة سياسية للأزمة القائمة، وكان أساس الرفض السوري يركز على نقطتين؛ الأولى وجود نشاط لجماعات مسلحة هدفها إشاعة الفوضى وتقويض النظام، والثاني وجود مؤامرة من أطراف محلية وإقليمية ودولية، تهدف إلى إطاحة النظام، وكلاهما ادعاء من شأنه بقاء الباب مفتوحا على استعمال القوة العسكرية/ الأمنية ويبررها، ويؤجل أية معالجات سياسية، بما في ذلك الإجراءات الإصلاحية التي يطرحها النظام.

ووصول الوضع السوري إلى الانسدادات الحالية، أخرج الأزمة من إطار المعالجة الداخلية بصورة تكاد تكون نهائية، وهو حال يماثل ما صار إليه الوضع السوري في معالجاته الإقليمية، ذلك أن تركيا، التي كانت حتى وقت قريب من أقرب حلفاء النظام تحولت إلى أبرز خصومه، والبلدان العربية التي سكتت نحو ثمانية أشهر، قبل أن تطلق مبادرتها لمعالجة الوضع، تحولت إلى فرض عقوبات اقتصادية وسياسية، تمهد لنقل الموضوع السوري إلى الأمم المتحدة، حيث لا قدرة كبيرة للتأثير العربي والإقليمي على مجريات الأمور والقرارات التي تتخذ في هذا المستوى.

إن اعتماد النظام على مواقف دول مثل روسيا والصين وبدرجة أكبر على حلفاء صغار مثل إيران، لن يحول دون اتخاذ عقوبات دولية ليس فقط بالاستناد إلى تجارب مماثلة كما حدث على الأقل في موضوعي العراق عام 2003 وليبيا عام 2011، حيث باعت تلك الدول مواقفها، بل أيضا بفعل أن الرأي العام الدولي لن يكون بمقدوره الاستمرار في تعامله الراهن مع الملف السوري وقتل المحتجين المدنيين خاصة بعد الموقفين العربي والإسلامي، وهذا كله سيدفع إلى تسخين الملف السوري وقد بدأ ذلك بالفعل من خلال مجلس حقوق الإنسان من جهة، وتحرك بعض الدول الكبرى في مجلس الأمن، ولا شك أن ثمار ذلك سيكون عقوبات تمهد لتدخل دولي واسع وفعال في سوريا، ستكون فاتورته كبيرة على الجميع ولا سيما على السوريين.