هذا كلـه من فضلة خيرك يا عمي

TT

من صغري كنت مغرما بقراءة القصص البوليسية ابتداء (بأرسين لوبين) ومرورا (بشارلك هولمز)، وانتهاء (بكلومبو)، ومتابعة المسلسلات والأفلام التي تنحو هذا النحو، وقد لاحظ أحدهم تعلقي بهذه الاتجاهات إلى درجة أنه شكك أن لدي نزعات إجرامية، وسألني عن ذلك بطريقة المزح، فقلت له: بالعكس فإنني أبحث عن خلاص العالم من كل إجرام، ولكن ما بيدي حيلة.

وإذا كان هناك إنسان قد ساهم بتقليص الجريمة وكان وبالا على المجرمين في أرجاء العالم، فلا شك أنه الفرنسي (بيرتيلون) الذي كان أول من اهتدى لأهمية (بصمة) الإنسان، وكان في بدايته فاشلا بدراسته، وفصل من أربع مدارس، كما طرد من عدة أعمال.

ولكنه حصل على عمل لم يكن ثمة من سبيل لفقده.

كان يقوم بالخدمة العسكرية الإجبارية وفي أثناء راحة الليل، كان يتردد على إحدى المدارس الطبية وأغرم بدراسة الجماجم البشرية وقام بتصنيف 222 هيكلا عظيما بشريا، واكتشف بعد ذلك أنه لا يوجد بين هذا العدد من الهياكل هيكلان متشابهان.

ولاحظ أثناء قراءته أن الصينيين كانوا منذ (1500) عام مضت يستعملون بصمة الإبهام بدلا من التوقيع، وهنا تذكر دراساته عن التشريح والعظام، كما لاحظ أن الأصابع دائمة الإفراز للعرق، وأنها لا يمكن أن تلمس وجه أي جسم ناعم دون أن تترك أثرا، وأنها لا تتغير مطلقا، فهي توجد منذ أن يصبح عمر الجنين أربعة أشهر، وتظل ما دام الجسم البشري. وقد ظلت البصمات واضحة في بعض المومياوات المصرية القديمة البالغة من العمر خمسة آلاف سنة.

وركز على هذه الناحية، وأخذ يصور أكبر قدر من البصمات ولم يجد أيا منها تشبه الأخرى، وأعلن اكتشافه الذي استهجنوه في البداية، غير أنهم عندما طبقوه على عدة جرائم ومجرمين ثبتت دقته وصحته.

غير أن اكتشاف (بيرتيلون) هذا لم يفدني أنا بشيء، وذلك قبل عدة سنوات عندما سافرت في إجازتي السنوية، وتركت في بيتي عاملا منزليا ليس لديه إقامة، وبعد أن عدت اكتشفت أن (حاميها حراميها) فقد سرق كل ما خف وزنه وغلا ثمنه، واستدعيت البوليس وبعد أن طافوا بأرجاء البيت، التفت لي الضابط قائلا لي: لدي خبر حسن وخبر سيئ، أيها تريد أن تسمع أولا؟! قلت هات الخبر الحسن لكي يرفع معنوياتي على الأقل، قال: الحسن هو: أننا (رفعنا البصمات) وعرفنا السارق، أما الخبر السيئ فهو: أن السارق سافر إلى بلد أفريقي ومن الصعب الوصول إليه، كما أن عليك جزاء وغرامة لأنك شغلته عندك وهو ليس لديه إقامة نظامية.

ويا ليته سكت عند ذلك، ولكنه صدمني عندما قال لي بكل برود: على العموم تستأهل ما جرى لك لأنك خالفت التعليمات.

واستسلمت لقدري وأخذت الجزاء ثم (طويت القضية)، وما هي إلا فترة حتى اتصل بي السارق تلفونيا من بلده يريد أن يطمئن علي ويعتذر عن السرقة، فقلت له بأسى: لا.. انس الموضوع وحلال عليك اللي سرقته، الحق عليا أنا، فأخذ يشكرني ويضحك.

وإلى الآن كلما حل عيد الفطر أو عيد الأضحى يتصل بي مهنئا وممازحا، ويحكي لي أنه قد تزوج وفتح الله عليه بالعمل، ويختم كلامه قائلا وهو يضحك: هذا كله من فضلة خيرك يا عمي.